صفحة جزء
المسألة الثالثة عشرة

فيما يمتنع بسبب الإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه

فمن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه في قوله : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] والصيغة في قوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال [ ص: 13 ] صيغة خبر أريد بها الإنشاء : أي فلا يرفث ولا يفسق ، ولا يجادل ، وقد تقرر في فن المعاني أن الصيغة قد تكون خبرية ، والمراد بها الإنشاء لأسباب منها التفاؤل كقولك : رحم الله زيدا ، فالصيغة خبرية ، والمراد بها إنشاء الدعاء له بالرحمة ، ومنها إظهار تأكيد الإتيان بالفعل ، وإلزام ذلك ; كقوله تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] : أي آمنوا بالله بدليل جزم الفعل في قوله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الآية [ 61 \ 12 ] فهو مجزوم بالطلب المراد بالخبر في قوله تؤمنون بالله أي : آمنوا بالله ، يغفر لكم ذنوبكم ; كقوله قاتلوهم يعذبهم الله الآية [ 9 \ 14 ] تعالوا أتل الآية [ 6 \ 151 ] ، ونحو ذلك . فالمسوغ لكون الصيغة في الآية خبرية ، هو إظهار التأكد ، واللزوم في الإتيان بالإيمان فعبر عنه بصيغة الخبر ، لإظهار أنه يتأكد ويلزم أن يكون كالواقع بالفعل المخبر عن وقوعه ، وكقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن الآية [ 2 \ 233 ] ، وقوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية [ 2 \ 228 ] . فالمراد الأمر بالإرضاع ، والتربص وقد عبر عنه بصيغة خبرية لما ذكرنا ، كما هو معروف في فن المعاني .

والأظهر في معنى الرفث في الآية أنه شامل لأمرين :

أحدهما : مباشرة النساء بالجماع ومقدماته .

والثاني : الكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته : إن أحللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا ، ومن إطلاق الرفث على مباشرة المرأة كجماعها قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فالمراد بالرفث في الآية : المباشرة بالجماع ومقدماته ، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج :


ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقد قدمنا هذا البيت في سورة " المائدة " ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه لما أنشد وهو محرم قال الراجز :


وهن يمشين بنا هميسا     إن تصدق الطير ننك لميسا



فقيل له : أترفث ، وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث : ما روجع به النساء ، وفي لفظ : ما قيل من ذلك عند النساء .

والأظهر في معنى الفسوق في الآية أنه شامل لجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تعالى ، [ ص: 14 ] والفسوق في اللغة : الخروج ، ومنه قول العجاج : يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

يعني بقوله : فواسقا عن قصدها : خوارج عن جهتها التي كانت تقصدها .

والأظهر في الجدال في معنى الآية : أنه المخاصمة والمراء : أي لا تخاصم صاحبك وتماره حتى تغضبه ، وقال بعض أهل العلم : معنى ولا جدال في الحج : أي لم يبق فيه مراء ولا خصومة ; لأن الله أوضح أحكامه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه ، من حلق شعر الرأس في قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، ومن ذلك تغطية المحرم الذكر رأسه لما ثبت في الصحيح ، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر عن راحلته فوقصته فمات : " لا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا " ، وفي رواية في صحيح مسلم : " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ متعددة في بعضها الاقتصار على النهي عن تخمير الرأس ، وفيها النهي عن تخمير الرأس والوجه ، وفي بعضها : النهي عن مسه بطيب ، وفي بعضها : النهي عن أن يقربوه طيبا وأن يغطوا وجهه ، وكل ذلك ثابت ، وهو نص صريح في منع تغطية المحرم الذكر رأسه أو وجهه ، أما المرأة فإنها تغطي رأسها ، ولا تغطي وجهها ، إلا إذا خافت نظر الرجال الأجانب إليه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومن ذلك لبس كل شيء محيط بالبدن ، أو بعضه ، وكل شيء يغطي الرأس كما تقدم قريبا : فلا يجوز للمحرم لبس القميص ، ولا العمامة ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا القباء ، ولا الخف إلا إذا لم يجد نعلا فإنه يجوز له لبس الخفين ، ويلزمه أن يقطعهما أسفل من الكعبين ، وكذلك إذا لم يجد إزارا : فله أن يلبس السراويل على الأصح فيهما .

وكذلك لا يجوز له أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران . وهذه أدلة منع ما ذكر .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يلبس القمص المحرم ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس " انتهى من صحيح البخاري .

[ ص: 15 ] وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " . وأخرج مسلم - رحمه الله - هذا الحديث عن ابن عمر أيضا من طريق ابنه سالم . وأخرج بعضه أيضا من طريق عبد الله بن دينار . ثم قال مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو الربيع الزهراني ، وقتيبة بن سعيد جميعا ، عن حماد ، قال يحيى : أخبرنا حماد بن زيد ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يقول : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين " يعني : المحرم . وقد ذكر مسلم هذا الحديث من طرق ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، وزاد شعبة في روايته ، عن عمرو : يخطب بعرفات .

وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس أيضا ، قال مسلم - رحمه الله - : وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من لم يجد نعلين ، فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل " انتهى من صحيح مسلم ، وهو يدل دلالة واضحة على جواز لبس السراويل للمحرم ، الذي لم يجد إزارا ، كجواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين ، وفي حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين زيادة على حديث ابن عمر : وهي جواز السراويل لمن لم يجد إزارا ، وهذه الزيادة يجب قبولها ، خلافا لمن منع قبولها ، وإطلاق الخفين في حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين يجب تقييده بما في حديث ابن عمر من قطعهما أسفل من الكعبين ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا ، كما هو مقرر في الأصول .

فأظهر الأقوال دليلا : أنه لا يجوز لبس الخفين ، إلا في حالة عدم وجود النعلين ، وأن قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لا بد منه ، وأن لبس السراويل جائز للمحرم الذي لم يجد إزارا ، خلافا لمن ذهب إلى غير ذلك .

وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يلبس المحرم القميص ، ولا السراويلات ، ولا البرنس ، ولا العمامة ، ولا الخف ، إلا [ ص: 16 ] ألا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران " فرواه البخاري ومسلم هكذا ، وزاد البيهقي وغيره فيه : " ولا يلبس القباء " وقال البيهقي : هذه الزيادة صحيحة محفوظة ، انتهى منه وهو دليل على منع لبس القباء للمحرم .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرحه لحديث ابن عمر المذكور : زاد الثوري في روايته ، عن أيوب ، عن نافع في هذا الحديث : " ولا القباء " ، أخرجه عبد الرزاق ، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري ، وأخرجه الدارقطني ، والبيهقي من طريق حفص بن غياث ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع أيضا . انتهى محل الغرض منه . وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال ، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شئن من أنواع الثياب ، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن ، ولا أن يلبسن القفازين ; لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها .

وقد قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا الليث ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : قام رجل فقال : يا رسول الله ، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب . . . الحديث ، وفيه " ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " تابعه موسى بن عقبة ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وجويرية ، وابن إسحاق في النقاب والقفازين ، وقال عبد الله : ولا ورس ، وكان يقول : لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : لا تنتقب المحرمة ، وتابعه ليث بن أبي سليم . انتهى من صحيح البخاري .

وقال أبو داود - رحمه الله - في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم : حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه . وزاد : " ولا تنتقب المرأة الحرام ، ولا تلبس القفازين " . وفي لفظ عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين " وقال النووي في " شرح المهذب " في هذا الحديث : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب ، وما مسه الورس ، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من أنواع الثياب من معصفر أو خز أو حرير ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا ، فرواه أبو داود بإسناد حسن ، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، إلا أنه قال : حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس ، وإذا قال المدلس : حدثني ، [ ص: 17 ] احتج به على المذهب الصحيح المشهور . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " التلخيص " : حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفرا ، أو خزا ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا . رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر ، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله : عن النقاب : " وما مس الزعفران والورس من الثياب وليلبسن بعد ذلك " . ورواه أحمد إلى قوله " من الثياب " ، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه ، أو ثيابه ، والطيب هو ما يتطيب به ، ويتخذ منه الطيب ، كالمسك ، والكافور ، والعنبر ، والصندل ، والورس ، والزعفران ، والورد ، والياسمين ونحو ذلك ، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لبس ما مسه الزعفران ، والورس من الثياب في الإحرام ، وما قدمنا من حديث مسلم في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات . ففي لفظ في صحيح مسلم : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين ، ولا يمس طيبا ، الحديث . وفي لفظ في صحيح مسلم : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغسلوه ولا تقربوه طيبا ، ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " ، فقوله : " ولا يمس طيبا " في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله : " ولا تقربوه طيبا " في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي ، وكلتاهما من صيغ العموم ، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم ، وترتيبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بالفاء .

قوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرما ملبيا ، والدلالة على العلة المذكورة هي من دلالة مسلك الإيماء والتنبيه ، كما هو معروف في الأصول . ومن ذلك عقد النكاح ، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة ، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية