صفحة جزء
الفرع السادس عشر : قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب ، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك .

اعلم : أن الأئمة الثلاثة مالكا ، والشافعي ، وأحمد لا فرق عندهم بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه ، أو أقل من عضو ، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به ، وتلزمه الفدية .

وقال أبو حنيفة : لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا ، مثل الرأس ، والفخذ ، والساق ، فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة ، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، كتمر وشعير . وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة : أنه إن فعل المحظور ، كاللباس ، والتطيب ، لا لعذر ، فعليه دم ، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية ، على التخيير ، وإن أكل المحرم طيبا كثيرا : لزمه الدم عند أبي حنيفة ، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف : تجب في ذلك الصدقة ، وعن محمد : أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو ، فعليه ثلث دم مثلا ، وهكذا ، وعن بعض الحنفية : أنه إن طيب ربع عضو : لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس ، فهو عندهم كحلق جميعه . وهذا خلاف المشهور في تطييب بعض العضو عندهم . وظاهر [ ص: 60 ] كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو ، فليس عليه إلا الصدقة . وصحح بعض الحنفية : أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو ، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب ، وله وجه من النظر ، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بإصبعه ، فأصابها كلها فعليه دم . وعن أبي يوسف : إن طيب شاربه كله أو بقدره من لحيته ، أو رأسه فعليه دم ، وعن بعض الحنفية : أنه إن اكتحل بكحل مطيب ، فعليه صدقة ، ومثله الأنف ، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم ، وفي مناسك الكرماني : لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد ، لاتحاد الجنس ، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله ، فإن بلغ عضوا : فعليه دم ، وإلا فصدقة ، ولو شم طيبا فليس عليه شيء ، وإن دخل بيتا مجمرا ، فليس عليه شيء ، وإن أجمر ثوبه ، فإن تعلق به كثيرا ، فعليه دم ، وإلا فصدقة انتهى من تبيين الحقائق .

وقال بعض الحنفية : إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم ، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين ، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول ، فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ، ا هـ .

وأظهرها عندي قول محمد : والحناء عندهم طيب ، فلو خضب رأسه بالحناء ، لزمه الدم . واستدلوا بحديث : " الحناء طيب " . قالوا رواه البيهقي . وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في " المعرفة " ، وفي إسناده ابن لهيعة ، وهو ضعيف . وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا ، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب ، والعلم عند الله تعالى : هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم .

وأما مذهب مالك في الطيب للمحرم فحاصله : أن الطيب عندهم نوعان : مذكر ومؤنث ، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه ، ويخفى أثره : كالريحان ، والياسمين ، والورد ، والبنفسج ونحو ذلك . وأما المؤنث : فهو ما يظهر ريحه ، ويبقى أثره : كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك . فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به ، ولا فدية في مسه ، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد ، فلا فدية عليه عندهم في ذلك ; لأنه من الطيب المذكر ، خلافا لابن فرحون في مناسكه ; حيث قال : إن ماء الورد فيه الفدية ; لأن أثره يبقى ، وممن قال : بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله : عثمان بن عفان ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق . وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به ، كالشيح ، والقيصوم ، والزنجبيل ، والإذخر ، فلا فدية فيه [ ص: 61 ] عندهم ، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون ، والأترج وسائر الفواكه ، وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم ، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء ، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها ، أو طرفت أصابعها بحناء ; فالفدية عندهم واجبة في ذلك . وأما مؤنث الطيب : كالمسك ، والورس ، والزعفران ، فإن التطيب به عندهم حرام ، وفيه الفدية .

ومعنى التطيب بالطيب عندهم : إلصاقه بالثوب ، أو باليد وغيرها من الأعضاء ، ونحو ذلك ، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار ، أو في بيت تجمر ساكنوه ، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه ، هذا هو مشهور مذهب مالك . وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم ، وجد ريحه أو لا ، لصق به أو لا ، ويكره شم الطيب عندهم مطلقا .

وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس ، والزعفران : إذا تقادم عهده ، وطال زمنه حتى ذهب ريحه بالكلية - أنه مكروه للمحرم ، ما دام لون الصبغ باقيا ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية .

وأقيس الأقوال : أنه يجوز مطلقا ; لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية ، والعلم عند الله تعالى . وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب ، فالفدية ، ولو لضرورة مع الجواز للضرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضرورة ولغيرها ، فثلاثة أقوال مشهورها : وجوب الفدية على الرجل ، والمرأة معا ، وقيل : لا تجب عليهما ، وقيل : تجب على المرأة دون الرجل .

وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه ، كنبات الصحراء من الشيح ، والقيصوم ، والخزامى والفواكه كلها من الأترج ، والتفاح وغيره ، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب ، كالحناء والعصفر ، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد ، ولا فدية فيه .

قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم : أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ، قال : ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب ، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض . وقد روي أن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن يحرمن في المعصفرات .

[ ص: 62 ] النوع الثاني : ما ينبته الآدميون للطيب ، ولا يتخذ منه طيب ، كالريحان ، والنرجس ، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان .

أحدهما : يباح بغير فدية كالذي قبله .

قال في " المغني " : وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق .

والوجه الثاني : يحرم شمه ، فإن فعل فعليه الفدية .

قال في " المغني " : وهو قول جابر ، وابن عمر ، والشافعي ، وأبي ثور ; لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد . وكرهه مالك ، وأصحاب الرأي ، ولم يوجبوا فيه شيئا ، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا ، فإنه قال في الريحان : ليس من آلة المحرم ، ولم يذكر فديته ، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب ، فأشبه العصفر . انتهى من " المغني " .

والنوع الثالث عندهم : هو ما ينبت للطيب ، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين ، ونحو ذلك . وهذا النوع إذا استعمله ، وشمه ففيه الفدية عندهم ; لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه ، فكذلك في أصله . وعن أحمد رواية أخرى في الورد : أنه لا فدية عليه في شمه ; لأنه زهر كزهر سائر الشجر .

قال في " المغني " : وذكر أبو الخطاب في هذا ، والذي قبله روايتين ، والأولى تحريمه ; لأنه ينبت للطيب ، ويتخذ منه ، فأشبه الزعفران والعنبر . قال القاضي : يقال : إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور . انتهى من " المغني " .

وقال في " المغني " أيضا : فكل ما صبغ بزعفران ، أو ورس ، أو غمس في ماء ورد ، أو بخر بعود ، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ، ولا النوم عليه نص أحمد عليه ، وذلك لأنه استعمال له ، فأشبه لبسه ، ومتى لبسه أو استعمله ، فعليه الفدية . وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية ، وإلا فلا ; [ ص: 63 ] لأنه ليس بمتطيب ، ثم قال صاحب " المغني " : وإن انقطعت رائحة الثوب ؛ لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء ، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه . وبهذا قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، والنخعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن عطاء ، وطاوس ، وكره ذلك مالك ، إلا أن يغسل ، ويذهب لونه ; لأن عين الزعفران ونحوه فيه . ثم قال : فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه ، ففيه الفدية ; لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه . والماء لا رائحة له ، وإنما هي من الصبغ الذي فيه . فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة : فلا فدية عليه بالجلوس ، والنوم عليه ، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية ; لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه . انتهى من " المغني " .

وأما العصفر : فليس عندهم بطيب ، ولا بأس باستعماله ، وشمه ، ولا بما صبغ به .

قال في " المغني " : وهذا قول جابر ، وابن عمر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب ، وهو مذهب الشافعي ، وعن عائشة وأسماء ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنهن كن يحرمن في المعصفرات " ، ومنع منه الثوري ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالورس ، والمزعفر ; لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ، ا هـ .

والأظهر : أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم ولا غيره للمعصفر ، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر ، عند أبي داود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز " الحديث ، وهو صريح في أن العصفر : ليس بطيب . وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء ، وهن محرمات ، ويلبسن المعصفر وهن محرمات " .

وقال في " مجمع الزوائد " : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه يعقوب بن عطاء ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، ا هـ . وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقا .

وقال صاحب " المغني " أيضا : ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة ; لأنه مصبوغ بطين لا بطيب ، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ ، سوى ما ذكرنا ; لأن الأصل الإباحة ، إلا [ ص: 64 ] ما ورد الشرع بتحريمه ، وما كان في معناه ، وليس هذا كذلك ، وأما المصبوغ بالرياحين : فهو مبني على الرياحين في نفسها ، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته ، وإلا فلا ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم ، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره ، ولا بين قليل اللبس وكثيره ، كما تقدم إلا أنه يفرق بين تعمد استعمال الطيب واللبس وبين استعماله لذلك ناسيا ، فإن فعله متعمدا أثم ، وعليه الفدية ، وإزالة الطيب واللباس فورا ، وإن تطيب ، أو لبس ناسيا : فلا فدية عليه ، ويخلع اللباس ، ويغسل الطيب .

قال ابن قدامة في " المغني " : المشهور أن المتطيب ناسيا ، أو جاهلا لا فدية عليه ، وهو مذهب عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وابن المنذر . انتهى محل الغرض منه ، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء : وهي الجماع ، وقتل الصيد ، وحلق الرأس ، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان . وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة .

وقال في " المغني " : ويلزمه غسل الطيب ، وخلع اللباس ; لأنه فعل محظورا ، فيلزمه إزالته ، وقطع استدامته كسائر المحظورات ، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه . ويجوز أن يليه بنفسه ، ولا شيء عليه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا : " اغسل عنك الطيب " ولأنه تارك له ، فإن لم يجد ما يغسله به ، مسحه بخرقة ، أو حكه بتراب ، أو ورق أو حشيش ; لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة . وهذا نهاية قدرته ثم قال : وإذا احتاج إلى الوضوء ، وغسل الطيب ، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما : قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث ; لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب ، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة ، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ ، فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته ، فلا يتعين الماء ، والوضوء ، بخلافه انتهى منه . وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم .

ومذهب الشافعي في هذه المسألة : أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب ، ولا فرق عنده بين القليل والكثير ، واستعمال الطيب عنده : هو أن يلصق الطيب ببدنه ، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب . فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد : لزمته الفدية ، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه ، فإن أكله أو احتقن به ، أو استعط ، أو اكتحل أو لطخ به رأسه ، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم ، [ ص: 65 ] ولزمته الفدية ، ولا خلاف عندهم في شيء من ذلك ، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف : أنه لا فدية فيهما .

ومشهور مذهب الشافعي : وجوب الفدية فيهما ، ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب ، أو ثوبا مصبوغا بالطيب ، أو علق بنعله طيب ، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه ، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة ، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه : فلا فدية عليه بلا خلاف ، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة ، لم يكره ، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان للشافعي ، أصحهما : يكره ، وبه قطع القاضي أبو الطيب وآخرون ، وهو نصه في الإملاء ، والثاني : لا يكره ، وقطع القاضي حسين بالكراهة ، وقال : إنما القولان في وجوب الفدية ، والمذهب الأول ، وبه قطع الأكثرون . قاله : النووي ثم قال : ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه : لزمته الفدية ، بلا خلاف ; لأنه يعد استعمالا للطيب ، ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور ، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ; لأن استعماله هكذا يكون ، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه ، لكن عبقت به الرائحة ، ففي وجوب الفدية قولان ، الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط : لا تجب ; لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة ، وهي تبخر ، والثاني : تجب ، وصححه القاضي أبو الطيب ، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم ; لأنها عن مباشرة ، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه ، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما : لا تجب عليه الفدية ، خلافا لإمام الحرمين .

وأما إن مس الطيب ، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصدا مسه ، فعلق بيده ، فعليه فدية عندهم ، ولو شد مسكا أو كافورا ، أو عنبرا في طرف ثوبه أو جبته : وجبت الفدية عندهم قطعا ; لأنه استعمال له ، ولو شد العود فلا فدية ; لأنه لا يعد تطيبا ، بخلاف شد المسك ، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم ، بخلاف ما لو شم ماء الورد ، فإنه لا يكون متطيبا عندهم ، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا ، أو طيبا غيره في كيس ، أو خرقة مشدودا ، أو قارورة مصممة الرأس ، أو حمل الورد في وعاء : فلا فدية عليه . نص عليه في الأم وقطع به الجمهور : وفيه وجه شاذ : أنه إن كان يشمه قصدا : لزمته الفدية ، ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة : فلا فدية في أصح الوجهين .

ولو كانت القارورة مشقوقة ، أو مفتوحة الرأس ، فعن جماعة من الأصحاب [ ص: 66 ] الشافعيين : تجب الفدية ، وخالف الرافعي قائلا : إن ذلك لا يعد تطيبا ، ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة ، أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه : لزمته الفدية عندهم . ولو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام : لم تجب الفدية . نص عليه الشافعي في الأم . واتفق عليه الأصحاب ، لكن إن كان الثوب رقيقا كره ، وإلا فلا ، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان ، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله ، وإن بقي لون الطيب دون ريحه ، لم يحرم على أصح الوجهين .

ولو صب ماء ورد في ماء كثير ، حتى ذهب ريحه ولونه : لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين . فلو ذهبت الرائحة ، وبقي اللون ، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاما فيه زعفران أو طيب . وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام ، حتى ذهب لونه ، وريحه وطعمه : فلا فدية . ولا خلاف في ذلك عندهم ، وإن ظهر لونه وطعمه ، وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ، وإن بقيت الرائحة فقط : وجبت الفدية ; لأنه يعد طيبا ، وإن بقي اللون وحده ، فطريقان مشهوران :

أصحهما : أن فيه قولين الأصح منهما : أنه لا فدية فيه ، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم . الثاني : تجب الفدية ، وهو نصه في الأوسط .

والطريق الثاني : أنه لا فدية فيه قطعا ، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها : وجوب الفدية قطعا : كالرائحة ، والثاني : فيه طريقان بلزومها وعدمه ، والثالث : لا فدية ، وهذا ضعيف أو غلط . وحكى بعض الشافعية طريقا رابعا : وهو أنه لا فدية قطعا ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب ، واستعمل الطيب : لزمته الفدية عندهم ، بلا خلاف ; لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية ، وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي : وممن صرح بهذا المتولي ، وصاحب العدة والبيان ، ا هـ .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب ، إذا استعمل الطيب ، مبني على قاعدة هي : أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته ; لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة ، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر ، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة ، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره ، هذا الذي لا مشقة فيه ; لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب ، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالمظان لا تتخلف أحكامه بتخلف حكمها في بعض الصور ، كما عقده بعض أهل العلم بقوله : [ ص: 67 ] إن علل الحكم بعلة غلب وجودها اكتفي بذا عن الطلب لها بكل صورة . . . . . . إلخ

وإيضاحه : أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب ، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب ، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة ، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع .

وقد تقرر في الأصول : أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح :

والكسر قادح ومنه ذكرا تخلف الحكمة عنه من درى



وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول ، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها ، لا يقدح في المعلل بالمظان ، كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم : أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول : هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم ، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم ، والمحافظة على العقل من الاختلال : هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر ، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله :

وهي التي من أجلها الوصف جرى     علة حكم عند كل من درى



وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان : هي السفر ، والحكمة التي صار السفر علة بسببها هي : تخفيف المشقة على المسافر مثلا ، وهكذا .

واعلم : أن علماء الشافعية قالوا : إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه : أن يكون معظم الغرض منه التطيب ، واتخاذ الطيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . هذا ضابطه عندهم .

ثم فصلوه فقالوا : الأصل في الطيب : المسك ، والعنبر ، والكافور ، والعود ، والصندل ، والذريرة ، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا : والكافور صنع شجر معروف .

وأما النبات الذي له رائحة فأنواع :

[ ص: 68 ] منها : ما يطلب للتطيب ، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين ، والخيرى ، والزعفران ، والورس ونحوها ، فكل هذا طيب . وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى : أنها ليست طيبا والمذهب الأول .

ومنها : ما يطلب للأكل والتداوي غالبا ، كالقرنفل والدارصيني ، والفلفل ، والمصصكى ، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب ، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره ، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل ، ففيه وجهان عندهم . والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم .

ومنها : ما ينبت بنفسه ، ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح ، والمشمش ، والكمثرى ، والسفرجل ، وكالشيح ، والقيصوم ، وشقائق النعمان والإذخر ، والخزامى ، وسائر أزهار البراري ، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه ، وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه ، بلا خلاف .

ومنها : ما يتطيب به ، ولا يتخذ منه الطيب : كالنرجس ، والآس ، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان .

أحدهما : أنه طيب قولا واحدا .

والطريق الثاني : وهو الصحيح المشهور عندهم : أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما ، وهو قوله الجديد : أنه طيب موجب للفدية . القول الثاني وهو القديم : أنه ليس بطيب ، ولا فدية فيه ، ا هـ والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق ، خلافا لمن زعم خلافا عندهم في الحناء .

واعلم : أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب ، ولا فيه طيب ، كالزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ، ودهن الجوز ، واللوز ونحوها . فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن ، ولا فدية فيه ، إلا في الرأس ، واللحية ، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف ، وفيه : الفدية ; لأنه إزالة للشعث ، إن كان في الرأس واللحية ، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه ، أو أمرد فدهن ذقنه : فلا فدية عندهم في ذلك ، بلا خلاف ، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر ، ففيه عندهم وجهان : أصحهما : وجوب الفدية بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن ، الذي جعل عليه ، وهو محلوق والوجه الثاني : لا فدية ; لأنه لا يزول به شعث . واختاره المزني وغيره ولو كان [ ص: 69 ] برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه : فلا فدية ، بلا خلاف ، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلبن جاز : ولا فدية ، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن ; لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر ، والشحم ، والشمع عندهم ، إذا أذيبا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما .

الضرب الثاني : دهن هو طيب ، ومنه : دهن الورد ، والمذهب عندهم : وجوب الفدية فيه ، وقيل : فيه وجهان . ومنه : دهن البنفسج ، فعلى القول بأن نفس البنفسج : لا فدية فيه ، فدهنه أولى ، وعلى أن فيه الفدية ، فدهنه كدهن الورد ، والأدهان كثيرة ، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق ، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن ، ونبت طيب الرائحة ، والخيرى ، وهو معرب ، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي : خيري البر ، ومذهب الشافعي : أن الأدهان المذكورة ، ونحوها طيب ، تجب باستعماله الفدية .

واعلم : أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب : إذا كان استعمله عامدا ، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه ، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه ، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء ، إن لم يكف الماء ، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة ، بخلاف غسل النجاسة ، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجب الفدية ، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام ، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية .

وأما الاكتحال بما لا طيب فيه ، فإن كان فيه زينة كره عندهم : كالإثمد ، وإن كان بما لا زينة فيه : كالتوتيا الأبيض فلا كراهة .

وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم : ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر ، أو يجعله في ثوبه ، أو بدنه ، وسواء كان الثوب مما ينقض الطيب ، أم لم يكن .

قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء .

وقال أبو حنيفة : يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود ، والند ، ولا يجوز أن يجعل شيئا من الطيب في بدنه ، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه ، فإن جعله في باطنه ، وكان الثوب لا [ ص: 70 ] ينقص ، فلا شيء عليه ، وإن كان ينقص لزمته الفدية انتهى منه .

والظاهر المنع مطلقا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران ، وكل هذه الصور يصدق فيها : أنه مسه ورس أو زعفران ، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما ، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه . وكذلك المتبخر بالعود متطيب عرفا ، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قد ذكرنا أن مذهبنا : أن الزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة ، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته .

وقال الحسن بن صالح : يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته .

وقال مالك : لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة : كالوجه ، واليدين ، والرجلين ، ويجوز دهن الباطنة : وهي ما يوارى باللباس .

وقال أبو حنيفة : كقولنا في السمن والزبد ، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال : يحرم استعمالها في الرأس والبدن .

وقال أحمد : إن ادهن بزيت أو شيرج : فلا فدية في أصح الروايتين ، سواء دهن يديه أو رأسه .

وقال داود : يجوز دهن رأسه ، ولحيته ، وبدنه بدهن غير مطيب .

وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك : فقد قال البيهقي في " السنن الكبرى " : أخبرنا أبو ظاهر الفقيه ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما ، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، أنبأ أبو سلمة الخزاعي ، أنبأ حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " يعني : غير مطيب ، لم يذكر ابن يوسف تفسيره .

قال الإمام أحمد : ورواه الأسود بن عامر شاذان ، عن حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد ، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير انتهى منه . ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - [ ص: 71 ] أنه مر عليه قوم محرمون ، وقد تشققت أرجلهم فقال : ادهنوها . وفرقد المذكور في سند هذا الحديث ، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة : أبو يعقوب البصري ، وهو معروف بالزهد والعبادة . ولكنه ضعفه غير واحد . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق عابد ، لكنه لين الحديث كثير الخطأ . وقال النووي في " شرح المهذب " : واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد - رحمه الله - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " رواه الترمذي والبيهقي ، وهو ضعيف . وفرقد غير قوي عند المحدثين . قال الترمذي : هو ضعيف غريب ، لا يعرف إلا من حديث فرقد ، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد . وقوله : غير مقتت : أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه .

وفي " القاموس " : وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة ، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران :

الأول : أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ، لضعف فرقد المذكور .

والثاني : أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن ; لأن الادهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ، ا هـ .

وحجة من منع الادهان بغير الطيب ; لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه : " انظروا إلى عبادي جاءوا شعثا غبرا " وهو مشهور ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث ، ولا التنظيف . والله أعلم .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن . قال : وأجمع عوام أهل العلم ، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن ، قال : وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه .

وقال النووي أيضا : الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق : ولا فدية ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وداود . وقد قدمنا أن الخضاب بالحناء : يوجب الفدية عند المالكية ، ثم قال النووي : وقال أبو حنيفة : هو طيب يوجب الفدية ، وإذا لبس ثوبا معصفرا : فلا فدية ، والعصفر : ليس بطيب ، هذا مذهبنا ، وبه قال أحمد وداود ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر [ ص: 72 ] وجابر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء ، وقال : وكرهه عمر بن الخطاب ، وممن تبعه الثوري ومالك ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وقال أبو حنيفة : إن نفض على البدن : وجبت الفدية ، وإلا وجبت صدقة . انتهى محل الغرض منه .

وقال النووي أيضا : ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان : الأصح تحريمها ، ووجوب الفدية ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، إلا أن مالكا ، وأبا حنيفة يقولان : يحرم ولا فدية .

قال ابن المنذر : واختلف في الفدية ، عن عطاء وأحمد ، وممن جوزه وقال : هو حلال لا فدية فيه : عثمان ، وابن عباس ، والحسن البصري ، ومجاهد وإسحاق ، قال العبدري : وهو قول أكثر الفقهاء .

وقال النووي أيضا : قد ذكرنا أن مذهبنا : جواز جلوس المحرم عند العطار : ولا فدية فيه . وبه قال ابن المنذر ، قال : وأوجب عطاء فيه الفدية ، وكره ذلك مالك . انتهى منه .

واعلم : أن المحرم عند الشافعية ، إذا فعل شيئا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا ، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والحلق والقلم ، فالمذهب وجوب الفدية ، وفيه خلاف ضعيف . وإن كان استمتاعا محضا : كالتطيب ، واللباس ، ودهن الرأس واللحية ، والقبلة ، وسائر مقدمات الجماع : فلا فدية ، وإن جامع ناسيا أو جاهلا : فلا فدية في الأصح أيضا .

قال النووي : وبهذا قال : عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وداود . وقال : مالك ، وأبو حنيفة ، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه : عليه الفدية ، وقاسوه على قتل الصيد .

وقد قدمنا حكم المجامع ناسيا وأقوال الأئمة فيه . هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب . وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم ، من فقهاء الأمصار ، ما اتفقوا عليه ، وما اختلفوا فيه .

واعلم : أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة ، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة ، اختلافا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . فيقول بعضهم مثلا : الريحان والياسمين ، كلاهما طيب فمناط تحريمهما ، على المحرم موجود ، وهو كونهما طيبا ، [ ص: 73 ] فيخالفه الآخر ، ويقول : مناط التحريم ، ليس موجودا فيهما ; لأنهما لا يتخذ منهما الطيب ، فليسا بطيب وهكذا .

واعلم : أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ، على أن من استعمل الطيب ، وهو محرم يلزمه فدية ، ولكنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه ، إن وقع لعذر في آية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] .

وأظهر أقوال أهل العلم : أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية ; لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه ، والمقرر في الأصول أنه لا بد من اتفاق الفرع المقيس ، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة ، إن كان التطيب ، أو اللبس لعذر ; لأن الآية نزلت في العذر ، وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقا كان لعذر أو غيره ، وهو أيضا مذهب مالك وأحمد .

فتحصل : أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب ، وتغطية الرأس ، واللبس ، وتقليم الأظافر ، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى ، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة . وقد بينا أنه مقتضى الأصول ، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية