صفحة جزء
الفرع الثامن عشر : في أحكام أشياء متفرقة : كالنظر في المرآة للمحرم ، وغسل الرأس ، والبدن وما يلزم من قتله بغسله رأسه قملا ، والحجامة ، وحك الجسد ، والرأس وتقريد البعير ، وتضميد العين بالصبر ونحوه ، والسواك . أما النظر في المرآة : فالظاهر أنه لا بأس به للمحرم ، ولم يرد شيء يدل على النهي عنه فيما أعلم .

وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب الطيب عند الإحرام ، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ، ويدهن . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن ، وقال عطاء : يتختم ويلبس الهميان ، وطاف ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب ، ولم تر عائشة - رضي الله عنها - بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها انتهى منه .

ومحل الشاهد عنه قول ابن عباس : وينظر في المرآة وهذه المسائل التي ذكرها البخاري ، قد قدمناها كلها وأوضحنا مذاهب العلماء فيها ، إلا النظر في المرآة الذي هو غرضنا منها الآن . وكون عائشة لم تر بأسا بالتبان ، للذين يرحلون هودجها ، والتبان كرمان ، سراويل صغير يستر العورة المغلظة ، وإباحة عائشة للتبان للذين يرحلون هودجها قريب من قول المالكية : بجواز الاستثفار للركوب والنزول ، وما ذكره البخاري عن ابن عمر من : " أنه طاف وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب " خصص المالكية ، جواز شد الحزام [ ص: 92 ] على البطن من غير عقد بضرورة العمل خاصة كما تقدم .

والحاصل : أنه لا ينبغي أن يختلف في جواز نظر المحرم في المرآة ، إذ لا دليل على النهي عنه ، وذكر ابن حجر في " الفتح " : أنه نقلت كراهته عن القاسم بن محمد ، وذلك هو مشهور مذهب مالك ، وفي سماع ابن القاسم : لا أحب نظر المحرم في المرآة ، فإن نظر فلا شيء عليه ، وليستغفر الله .

وأصح القولين عند الشافعية : أنه لا كراهة فيه ، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق قال : وبه أقول ، وكره ذلك عطاء الخراساني . وقال مالك : لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة ، قال : وعن عطاء في المسألة قولان : بالكراهة والجواز ، وصح عن ابن عمر : أنه نظر في المرآة . انتهى بالمعنى من النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة : أن مجرد نظر المحرم في المرآة لا بأس به ، ما لم يقصد به الاستعانة على أمر من محظورات الإحرام ، كنظر المرأة فيها لتكتحل بما فيه طيب أو زينة ، ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وذكر في " الفتح " أيضا : أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها حجت ، ومعها غلمان لها ، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء ، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها ، وهم محرمون قال : وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ : يشدون هودجها ، انتهى محل الغرض منه ، وقوله : يرحلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية ، وسكون الراء ، وفتح الحاء من قولهم : رحلت البعير أرحله بفتح الحاء في المضارع ، والماضي رحلا بمعنى : شددت الرحل على ظهره ، ومنه قول الأعشى :

رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها



وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن :

إذا ما قمت أرحلها بليل     تأوه آهة الرجل الحزين



والهودج : مركب من مراكب النساء معروف ، وما ذكر عن عائشة - رضي الله عنها - ظاهره أنها إنما رخصت في التبان ، لمن يرحل هودجها ، لضرورة انكشاف العورة ، وهو [ ص: 93 ] يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة ، والعلم عند الله تعالى .

وأما غسل الرأس والبدن بالماء ، فإن كان لجنابة كاحتلام ، فلا خلاف في وجوبه ، وإن كان لغير ذلك فهو جائز على التحقيق ، ولكن ينبغي أن يكون برفق لئلا يقتل بعض الدواب في رأسه واغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، لا ينبغي أن يختلف فيه : لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلما خالف السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على قائله .

قال البخاري في صحيحه : باب الاغتسال للمحرم ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدخل المحرم الحمام ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا . حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه : " أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء ، فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه . وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه ، فأرسلني عبد الله بن العباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين ، وهو يستر بثوب ، فسلمت عليه فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين ، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه ، وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب ، فطأطأه حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما ، وأدبر وقال : هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل .

وقال ابن حجر في الكلام على هذا الحديث : وكأنه خص الرأس بالسؤال ; لأنه موضع الإشكال في هذه المسألة ; لأنه محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف سائر البدن غالبا ، وحديث أبي أيوب المذكور أخرجه أيضا مسلم في صحيحه كلفظ البخاري ، وزاد مسلم فقال المسور لابن عباس : لا أماريك أبدا . وقال النووي في شرحه لحديث أبي أيوب : هذا عند مسلم ، وفي هذا الحديث فوائد .

منها : جواز اغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا إلى آخره ، وهذا حديث متفق عليه فيه التصريح : بجواز غسل الرأس في الإحرام ، وكذلك غسل البدن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : قال الماوردي : أما اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه ، فجائز لا يعرف بين العلماء ، خلاف فيه ، لحديث أبي أيوب السابق : أما دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضا عندنا وبه قال الجمهور ، وقال مالك : تجب الفدية بإزالة الوسخ ، وقال أبو حنيفة : إن غسل رأسه بخطمي ؛ لزمته الفدية . دليلنا حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعير . وقال ابن المنذر : وكره [ ص: 94 ] جابر بن عبد الله ومالك : غسل المحرم رأسه بالخطمي . قال مالك : وعليه الفدية ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : عليه صدقة . قال ابن المنذر : هو مباح لحديث ابن عباس . انتهى محل الغرض منه .

وقد قدمنا جواز غسل الرأس بالماء وحده ، عن المالكية ، وكراهة غمس الرأس في الماء ما لم يتيقن أنه لا يقتل بذلك بعض دواب الرأس .

وقال صاحب " اللسان " : والخطمي : ضرب من النبات ، بغسل به ، وفي الصحاح : يغسل به الرأس . قال الأزهري : هو بفتح الخاء ، ومن قال : خطمي بكسر الخاء فقد لحن ، وفي المدونة عن مالك : لا يدخل المحرم الحمام ، فإن دخله ، وتدلك ، وألقى الوسخ : افتدى . وقال اللخمي : أرى أن يفتدي ، ولو لم يتدلك ; لأن الشأن فيمن دخل الحمام ، ثم اغتسل أن الشعث يذهب عنه ، ولو لم يتدلك ، انتهى بواسطة نقل المواق .

فتحصل : أن مطلق الغسل الذي لا تنظيف فيه لا خلاف فيه إلا ما رواه مالك ، عن ابن عمر : " أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم ، إلا من احتلام " . وروى مالك في " الموطأ " ، عن عمر بن الخطاب : " أنه غسل رأسه ، وهو محرم ، وأمر يعلى بن منية : أن يصب على رأسه أي : عمر الماء ، وقال : اصبب ، فلن يزيده الماء إلا شعثا " . وقد ثبت في الصحيحين جوازه ، وأن إزالة الوسخ بالتدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ونحو ذلك : فيه خلاف كما رأيت أقوال أهل العلم فيه .

وحجة من قال : من التدلك وإزالة الوسخ لا شيء فيه حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعيره ، ومات ، ونهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخمروا رأسه ووجهه ، وعلل ذلك : بأنه يبعث ملبيا ، ومع ذلك فقد أمرهم أن يغسلوه بماء وسدر ، وذلك ثابت في الصحيح ، وأن الأصل عدم الوجوب .

واحتج من منع إزالة الوسخ : بأن الوسخ من التفث وقد دلت آية : ثم ليقضوا تفثهم على أن إزالة التفث : لا تجوز قبل وقت التحلل الأول .

واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء ، فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا " ، قال النووي في " شرح المهذب " : رواه البيهقي بإسناد صحيح .

وأخرج الترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحاج الشعث التفل " وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي .

[ ص: 95 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما مجرد الغسل الذي لا يزيده إلا شعثا كما قال عمر - رضي الله عنه - فلا ينبغي أن يختلف فيه ، لحديث أبي أيوب المتفق عليه ، وأما التدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ، فلا نص فيه ، والأحسن تركه احتياطا ، وأما لزوم الفدية فيه فلا أعلم له دليلا يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .

وأما حكم من قتل بغسله رأسه قملا ، فلا أعلم في خصوص قتل المحرم القمل نصا من كتاب ، ولا سنة .

وقد قدمنا أن مذهب مالك : أنه إن قتل قملة أو قملات أطعم ملء يد واحدة من الطعام كفارة لذلك ، وإن قتل كثيرا منه لزمته الفدية ، وعن الشافعي أن من قتل قملة : أطعم شيئا قال : وأي شيء فداها به فهو خير منها . وعند الشافعي : أنه إن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه ، لم يكره له أن ينحيه ; لأنه ألجأه .

وذهب بعض أهل العلم إلى أن قتل القمل لا فدية فيه ، وهو مذهب أحمد وأصحابه ، مع أن عنه روايتين :

إحداهما : إباحة قتله ; لأنه يؤذي ، والأخرى منع قتله ; لأن فيه ترفها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - :

أظهر أقوال أهل العلم عندي في ذلك : أن القمل لا يجوز قتله وأخذه من الرأس ، بدليل قصة كعب بن عجرة المتقدمة ، فإنه لو كان قتله يجوز لما صبر على أذاه ، ولتسبب في التفلي ; لإزالته من رأسه ، كما هو العادة المعروفة فيمن آذاه القمل ، وهو غير محرم إن لم يرد الحلق ، وأنه لا شيء على من قتله . والدليل على ذلك أمران .

أحدهما : أن الأصل عدم الوجوب إلا لدليل ، ولا دليل على لزوم شيء في قتل القمل ، مع أنه يؤذي أشد الإيذاء .

الأمر الثاني : أن ظاهر حديث كعب بن عجرة المتفق عليه ، وظاهر القرآن العظيم كلاهما : يدل على أن الفدية إنما لزمت بسبب حلق الرأس ، مع كثرة ما فيه من القمل ، فلو كانت الفدية تلزم من قتل القمل ، وإزالته ، لبينه - صلى الله عليه وسلم - فقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ظاهره : أن الأذى الذي برأسه من القمل ونحوه : كالمرض في إباحة الحلق ، وأن الفدية لزمت بسبب الحلق لا بسبب المرض ، ولا بسبب إزالة القمل ، وكذلك [ ص: 96 ] ظاهر حديث كعب ، حيث أمره بالحلق والفدية ، فهو يدل على أن الفدية من أجل الحلق لا غيره .

ومما يؤيد ذلك : أن القمل لا قيمة له ، فهو كالبراغيث والبعوض ، وليس القمل بمأكول ، وليس بصيد .

قال صاحب " المغني " : وحكي عن ابن عمر قال : هي أهون مقتول ، وسئل ابن عباس ، عن محرم ألقى قملة ، ثم طلبها فلم يجدها ؟ قال : تلك ضالة لا تبتغى . قال : وهذا قول طاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وعن أحمد فيمن قتل قملة ، قال : يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه ، سواء قتل كثيرا أو قليلا ، وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق : تمرة فما فوقها . وقال مالك : حفنة من طعام . وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال عطاء : قبضة من طعام .

وهذه الأقوال كلها راجعة إلى ما قلناه ، فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير ، وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به . انتهى من " المغني " . ولا يخفى أنها أقوال لا دليل على شيء منها .

وحجة القائلين بها في الجملة : أن قتل القمل فيه ترفه للمحرم ، والعلم عند الله تعالى .

وأما الحجامة : إن دعت إليها ضرورة ، فلا خلاف في جوازها للمحرم ، وإنما اختلف أهل العلم في الفدية ، إن احتجم . أما جوازها لضرورة فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

قال البخاري في صحيحه : باب الحجامة للمحرم : وكوى ابن عمر ابنه ، وهو محرم ، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب .

حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال : قال عمرو : أول شيء سمعت عطاء يقول : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، ثم سمعته يقول : حدثني طاوس ، عن ابن عباس فقلت : لعله سمعه منها .

حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن ابن بحينة - رضي الله عنه - قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحيي جمل في وسط رأسه " . انتهى من صحيح البخاري .

[ ص: 97 ] وقال البخاري في كتاب " الطب " ، باب الحجم في السفر والإحرام : قاله ابن بحينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم " .

وقال البخاري في كتاب " الطب " أيضا : باب الحجامة على الرأس .

حدثنا إسماعيل ، حدثني سليمان ، عن علقمة : أنه سمع عبد الرحمن الأعرج : أنه سمع عبد الله بن بحينة ، يحدث : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بلحيي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " وقال الأنصاري :

أخبرنا هشام بن حسان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه " وفي لفظ للبخاري ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له : لحيي جمل . وفي لفظ له أيضا ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به " انتهى منه . وحديث ابن عباس الذي ذكره البخاري : أخرجه مسلم أيضا ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم " . وأخرج مسلم أيضا حديث ابن بحينة المذكور بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه " ، ا هـ .

فهذا الحديث المتفق عليه ، عن صحابيين جليلين وهما : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن بحينة : صريح في جواز الحجامة للمحرم إن دعت إلى ذلك ضرورة وجع . والحديث المتفق عليه المذكور فيه أن الحجامة المذكورة كانت في الرأس .

قال ابن حجر في " الفتح " : وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان من طريق معمر ، عن قتادة عنه قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به " . ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن أبا داود ، حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة ، فأرسله وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة ، والجمع بين حديث ابن عباس ، وحديث أنس ، واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري . انتهى منه .

ولا يخفى أن مثل هذا لا تعارض فيه ، وأنه احتجم مرة في الرأس ، ومرة على ظهر القدم كما لا يخفى . وقوله في الحديث المتفق عليه : " بلحيي جمل " هو بفتح اللام ، [ ص: 98 ] ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية ، وفي بعض رواياته : بياءين بصيغة التثنية ، وجمل بفتح الجيم ، والميم . وقد جاء في الروايات ، أنه اسم موضع بين مكة والمدينة . وقال في " الفتح " : قال ابن وضاح : هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا ، ا هـ .

وقال صاحب " القاموس " : ولحى جمل موضع بين الحرمين ، وإلى المدينة أقرب . وزعم صاحب " القاموس " : أن السقيا بالضم : موضع بين المدينة ، ووادي الصفراء ، وما ظنه بعضهم : من أن المراد به أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل ، وأن فكه كان هو آلة الحجامة ، فهو غلط لا شك فيه .

فهذه النصوص التي ذكرنا لا يبقى معها شك في جواز الحجامة للمحرم الذي به وجع يحتاج إلى الحجامة .

أما ما يلزم في ذلك فاختلفوا فيه : قال النووي في " شرح مسلم " : وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم . وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره ، إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر ، فإن لم يقطع فلا فدية عليه ، ودليل المسألة قول ه تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . وهذا الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس ; لأنه لا ينفك عن قطع شعر ، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة ، فإن تضمنت قلع شعر ، فهي حرام لتحريم قطع الشعر وإن لم تتضمن ذلك ، بأن كانت في موضع لا شعر فيه ، فهي جائزة عندنا .

وعند الجمهور : ولا فدية فيها ، ووافق الجمهور سحنون ، من أصحاب مالك ، وعن ابن عمر ومالك كراهتها ، وعن الحسن البصري : فيها الفدية .

دليلنا : أن إخراج الدم ليس حراما في الإحرام . انتهى منه .

وما ذكره النووي ، عن ابن عمر ومالك : من كراهة الحجامة لغير عذر ، ذكره مالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : أنه كان يقول : " لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه " وفيه قال مالك : لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة ، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام ، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر ، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة ، عن مالك وابن عمر بأمرين :

[ ص: 99 ] أحدهما : أن إخراج الدم من الحاج ، قد يؤدي إلى ضعفه ، كما كره صوم يوم عرفة للحاج ، مع أن الصوم أخف من الحجامة ، قالوا : فبطل استدلال المجيز ، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام ، لأنا لم نقل بالحرمة ، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت . قاله : الزرقاني في " شرح الموطأ " .

ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه ، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك .

الأمر الثاني : هو أن الحجامة إنما تكون في العادة ، بشد الزجاج ونحوه ، والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده . قاله : الشيخ سند .

وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفا على ما يكره : وحجامة بلا عذر - ما نصه : وأما مع العذر فتجوز ، فإن لم يزل بسببها شعرا ، ولم يقتل قملا فلا شيء عليه ، وإن أزال بسببها شعرا : فعليه الفدية . وذكر ابن بشير قولا بسقوطها قال في التوضيح : وهو غريب ، وإن قتل قملا ، فإن كان كثيرا ، فالفدية ، وإلا أطعم حفنة من طعام . والله سبحانه أعلم ، انتهى منه .

والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا . ولو أزال بسبب الحجامة شعرا له وجه من النظر ، ولا يخلو عندي من قوة ، والله تعالى أعلم . وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة : " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : احتجم في رأسه ، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة ، ولو وجبت عليه في ذلك فدية ، لبينها للناس ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . لا ينهض كل النهوض ; لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس ، لا في حلق بعضه ، وقد قدمنا أن حلق بعضه : ليس فيه نص صريح .

ولذلك اختلف العلماء فيه ، فذهب الشافعي : إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا . وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك ، وفي الأخرى : إلى لزومها بأربع شعرات ، وذهب أبو حنيفة : إلى لزومها بحلق الربع ، وذهب مالك : إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى ، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض [ ص: 100 ] الرأس ، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية ، في من أزال شعرا قليلا ; لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع ، والله تعالى أعلم .

وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه : محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ، بل قالا : في ذلك صدقة ، وقد قدمنا مرارا : أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير .

والحاصل : أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة ، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة ، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية ، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه . وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي ، وحكاه ابن بشير من المالكية . وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا ، فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها ، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة ، وبين غيره . والعلم عند الله تعالى .

واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة ، على جواز الفصد ، وربط الجرح ، والدمل ، وقلع الضرس ، والختان ، وقطع العضو ، وغير ذلك من وجوه التداوي ، إذ لم يكن في ذلك محظور : كالطيب ، وقطع الشعر .

وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه ، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس ، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك ، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر ، فالظاهر أنه لا يجوز .

وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك . ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قدمنا قول البخاري ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا .

وروى مالك في " الموطأ " عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أنها قالت : سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن المحرم ، أيحك جسده ؟ قالت : نعم فليحككه ، وليشدد ، ولو ربطت يداي ، ولم أجد إلا رجلي لحككت ، ا هـ .

وأما نزع القراد والحلمة من بعيره ، فقد أجازه عمر بن الخطاب ، وكرهه ابن عمر ومالك . وقد روى مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير : أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرد بعيرا له في طين بالسقيا ، وهو محرم . قال مالك : وأنا أكرهه . وروي أيضا في [ ص: 101 ] " الموطأ " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا عن بعيره . قال مالك : وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك . وقوله : يقرد بعيره : أي ينزع عنه القراد ويرميه .

وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه بين العلماء ، وأنه لا فدية فيه ، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب . أن ذلك جائز له ، وعليه الفدية .

ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا ، عن ابن عيينة قال أبو بكر : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب قال : خرجنا مع أبان بن عثمان ، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه ، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه ، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله ، فأرسل إليه : أن اضمدهما بالصبر ، فإن عثمان - رضي الله عنه - حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه ، وهو محرم ضمدهما بالصبر . وفي لفظ عن مسلم : أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدث عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل ذلك . انتهى من صحيح مسلم .

وأما السواك في الإحرام ، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وربط جرحه ما نصه : قال التادلي في مناسك ابن الحاج : وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك ، وإن دمي فمه . انتهى .

وقال ابن عرفة الشيخ : روى محمد والعتبي : للمحرم أن يتسوك ، ولو أدمى فاه انتهى ، ثم قال : قلت : لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه . انتهى والله أعلم . انتهى كلام الحطاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية