صفحة جزء
تنبيه آخر

اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير ، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة . أما النساء : فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير .

والصواب عندنا : وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة ; لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها ، وحلقه مثلة وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن ، وإنما عليهن التقصير .

قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ، ثنا محمد بن بكر ، ثنا ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " .

حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " انتهى منه .

وقال النووي في " شرح المهذب " ، في حديث ابن عباس هذا : رواه أبو داود بإسناد [ ص: 185 ] حسن . وقال صاحب " نصب الراية " في حديث ابن عباس المذكور : قال ابن القطان في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع .

أما الأول : فانقطاعه من جهة ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية ، فلم يعلم من حدثه به .

وأما الثاني : فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة ، يكنى أبا يعقوب ، وهذا غير كاف . وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل ، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه . وأما ضعفه : فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها . انتهى محل الغرض من " نصب الراية " للزيلعي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حديث ابن عباس المذكور : في أن على النساء التقصير لا الحلق ، أقل درجاته الحسن . فقول النووي : إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه ، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع ، فقول ابن القطان : وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جدا ; لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، وقد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى . وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية ، أم بني شيبة الأكابر ، كانت من المبايعات . روت عنها صفية بنت شيبة ، وروى عبد الله بن مسافع عن أمه عنها . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " : أم عثمان بنت سفيان ، والدة بني شيبة الأكابر ، وكانت من المبايعات . قاله أبو عمر إلى آخر كلامه ، وقد أورد فيه حديثا روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في السعي بين الصفا والمروة ، وقد قدمناه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " ، عن أبي نعيم : حديثا أخرجه ، وفيه أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر ، وقد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : أم عثمان بنت سفيان . ويقال : بنت أبي سفيان : هي أم ولد شيبة بن عثمان . روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس . وروت عنها صفية بنت شيبة اهـ .

ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم ، كما أوضحناه في غير [ ص: 186 ] هذا الموضع ، فتبين أن قول ابن القطان : إن الحديث ضعيف ; لأنها لم يعلم حالها قصور منه - رحمه الله - كما ترى . وأما قوله : إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف ، وأن أبا يعقوب المذكور ، إن قيل : إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه .

فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل ، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : حافظ شهير . قال : ووثقه يحيى بن معين ، والدارقطني : وقال صالح جزرة صدوق ، إلا أنه كان يقف في القرآن ، ولا يقول : غير مخلوق ، بل يقول : كلام الله . وقال فيه أيضا : قال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف . وقال فيه ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ، قال ابن معين : ثقة . وقال أيضا : من ثقات المسلمين ، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس ، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه . وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه ، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال الدارقطني : ثقة . وقال البغوي : كان ثقة مأمونا ، إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ، ويسكت عندها ولا يقول : غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه صالح جزرة : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ويقف .

وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف ، وكان صدوقا . وقال أحمد : إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشئوم ، إلا أنه كان صاحب حديث كيسا .

وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا كلام الله وسكتوا . وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين فقال : ثقة . قال عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستورا ، وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشايخ فقيل : كان يتهم بالوقف قال : نعم اتهم وليس بمتهم . وقال مصعب الزبيري : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي .

والحاصل : أنهم متفقون على ثقته ، وأمانته بالنسبة إلى الحديث ، إلا أنهم كانوا [ ص: 187 ] يتهمونه بالوقف ، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة ، وقول من ناظره أنه قال له : لم أقل على الشك . ولكني سكت كما سكت القوم قبلي ، ومعنى كلامه : أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده ما نصه : قلت : قل من ترك الأخذ عنه اهـ ، وهو تصريح منه

بأن الأكثرين على قبوله ، فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وقول ابن جريج فيها : " بلغني عن صفية بنت شيبة " تفسره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة : هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، وهو ثقة معروف .

فإن قيل : ابن جريج روى عنه بالعنعنة ، وهو مدلس ، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه ، بما يدل على السماع .

والجواب : أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل ، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين .

وقد قدمنا موضحا مرارا في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها .

قال الزيلعي في " نصب الراية " : بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء ، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه : وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه ، عن أبي بكر بن عياش ، عن يعقوب بن عطاء ، عن صفية بنت شيبة به ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، والبزار في مسنده ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس ، إلا من هذا الوجه انتهى ، وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال في المحرمة : تأخذ من شعرها قدر السبابة . انتهى ، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم ، وهو ضعيف . انتهى من " نصب الراية " .

فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير ، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن ، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل [ ص: 188 ] الزيلعي ، عند الطبراني ، والدارقطني ، والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رءوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا .

الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج .

الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق .

الثالث : أنه ليس من عملنا ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .

الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام .

الخامس : أنه مثلة والمثلة لا تجوز .

أما الإجماع ، فقد قال النووي في " شرح المهذب " ، قال ابن المنذر : أجمعوا على ألا حلق على النساء ، وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق ; لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة .

واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ابن عمر ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت حفصة بنت سيرين : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ، ولا يجوز من بعض القرون . انتهى محل الغرض منه ، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء : لا حلق عليهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ; لأن الحلق نسك على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه .

وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي ، في " نصب الراية " ; لأنه جمعها فيه في محل واحد قال : فنهي النساء عن الحلق فيه أحاديث .

منها : ما رواه الترمذي في الحج ، والنسائي في الزينة ، قالا : حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن همام ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . ثم رواه الترمذي ، عن محمد بن بشار ، عن أبي داود الطيالسي به ، عن خلاس عن النبي مرسلا ، وقال : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي ، وخالفه هشام الدستوائي ، وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة ، عن النبي مرسلا .

[ ص: 189 ] حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . قال البزار : ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد أحاديث ، لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث . انتهى ، ورواه ابن عدي في الكامل ، وقال : أرجو أنه لا بأس به ، قال عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث انتهى . وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء " : يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به ، إذا تفرد حديث آخر ، رواه البزار في مسنده أيضا .

حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي ، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة ، ثنا أبي ، عن وهب بن عمير قال : سمعت عثمان يقول : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها " انتهى . قال البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة ، وروح ليس بالقوي . انتهى كلام الزيلعي في " نصب الراية " .

وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها ، عن علي ، وعثمان ، وعائشة : يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله ، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة ، فمن بعدهم ، فهو أمر معروف ، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل : بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف ، وفي الحديث الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك ، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك ، فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال ، فهو واضح ، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال ; لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة . وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وأما كون حلق رأس المرأة مثلة ، فواضح ; لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها ، كما يدركه الحس السليم ، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم ، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته : [ ص: 190 ]

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل     غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل المداري في مثنى ومرسل

فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها ، وهو كذلك . وقال الأعشى ميمون بن قيس :

غراء فرعاء مصقول عوارضها     تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

فقوله : فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن .

وقال عمر بن أبي ربيعة :

تقول يا أمتا كفي جوانبه     ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيا مواشطه     تضل فيه مداريها وتنكسر

فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم ، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ، ونظيره قول الآخر :


وفرع يصير الجيد وحف كأنه     على الليث قنوان الكروم الدوالح



لأن قوله : يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته ، وقد بالغ من قال : بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر ، وقصدنا مطلق التمثيل ، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها ، وتشويه لها ، فهو مثلة وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد ، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام ، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق ، والسمت وغير ذلك .

فإن قيل : جاء عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها ، وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق ، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس ، من حديث وهب بن جرير : ثنا أبي ، سمعت أبا فزارة ، يحدث عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها وماتت بسرف ، فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها ، فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت [ ص: 191 ] ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجما " . انتهى بواسطة نقل صاحب " نصب الراية " . فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ، ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه .

وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري قال : حدثنا أبي قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بكر بن حفص ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع ، فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا . قال : وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة . اهـ من " صحيح مسلم " .

فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض ، لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .

وأما الجواب : عن حديث مسلم فعلى القول : بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر ، فلا إشكال ; لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في " شرح مسلم " : والوفرة أشبع ، وأكثر من اللمة . واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر . قاله : الأصمعي . انتهى محل الغرض من النووي .

وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة : من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة انتهى منه .

وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة : الشعر إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة : وهي التي ألمت بالمنكبين . وقال ابن منظور في " اللسان " : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، وقيل : ما سال على الأذنين من الشعر . والجمع وفار . قال كثير عزة : كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل وقيل : الوفرة أعظم من الجمة . قال ابن سيده : وهذا غلط إنما هي وفرة ، ثم جمة ، ثم لمة ، والوفرة : ما جاوز شحمة الأذنين ، واللمة : ما ألم بالمنكبين . التهذيب ، والوفرة : [ ص: 192 ] الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين ، وقيل : الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة ، إلى أن قال : والوفرة شعر الرأس ، إذا وصل شحمة الأذن . انتهى من " اللسان " .

فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رءوسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن . أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع ، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه - صلى الله عليه وسلم - إلى الموت . قال تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ 33 \ 53 ] ، واليأس من الرجال بالكلية ، قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة ، لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في " شرح مسلم " ، في الكلام على هذا الحديث : قال عياض - رحمه الله تعالى - : والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون ، والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين ، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رءوسهن ، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه ، بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، لا في حياته . كذا قاله أيضا غيره ، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء . انتهى كلام النووي . وقوله : وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء ، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس عليهن غيرهن ; لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن ، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب ، وربما تزوجت ; لأن كل ساقطة لها لاقطة . وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل : أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد وقال الآخر : ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله

والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية