صفحة جزء
الفرع الثالث : في سن الأضحية التي تجزئ . والأظهر أن السن التي تجزئ في الأضحية هي التي تكون مسنة ، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن .

قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " اهـ .

وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه : قال العلماء : المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها . وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال . وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري وغيره من أصحابنا ، عن الأوزاعي أنه قال : يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن . وحكي هذا عن عطاء . وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا : لا يجزئ . وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل ، وتقديره : يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال . وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن ، مع وجود غيره وعدمه . وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . إلى أن قال : والجذع من الضأن : ما له سنة تامة ، هذا هو الأصح عند أصحابنا ، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم ، وقيل : ما له ستة أشهر .

وقيل : سبعة ، وقيل : ثمانية ، وقيل : ابن عشرة . حكاه القاضي ، وهو غريب .

وقيل : إن كان متولدا من بين شابين ، فستة أشهر ، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر انتهى محل الغرض منه . وقال في " شرح المهذب " : ثم الجذع ما استكمل سنة على [ ص: 209 ] أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في " شرح مسلم " . وتقدم نقلها عنه آنفا . وقال أيضا : وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين ، ودخل في السادسة . وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين ، ودخل في السابعة .

قال الروياني : وليس هذا قولا آخر للشافعي ، وإن توهمه بعض أصحابنا ، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني ، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنة ، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين ، ودخل في الثالثة .

وروى حرملة عن الشافعي : أنه ما استكمل ثلاث سنين ، ودخل في الرابعة . والمشهور من نصوص الشافعي الأول ، وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم . والثني من المعز فيه عندهم وجهان أصحهما : ما استكمل سنتين . والثاني : ما استكمل سنة انتهى منه .

وقد علمت أن الثني هو المسن . قال ابن الأثير في " النهاية " في الجذع : هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز : ما دخل في السنة الثانية ، وقيل : البقر في الثالثة ، ومن الضأن : ما تمت له سنة ، وقيل : أقل منها ، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير انتهى منه . وقال ابن الأثير في " النهاية " أيضا : الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة ، ومن البقر كذلك ، ومن الإبل : في السادسة والذكر ثني ، وعلى مذهب أحمد بن حنبل : ما دخل من المعز في الثانية ، ومن البقر في الثالثة .

وقال ابن الأثير في " النهاية " ، في المسنة ، قال الأزهري : البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن ، إذا أثنيا ، ويثنيان في السنة الثالثة .

وقال الجوهري في صحاحه : الجذع قبل الثني والجمع جذعان وجذاع ، والأنثى : جذعة ، والجمع : جذعات ، تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية ، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة ، وللإبل في السنة الخامسة : أجذع ، والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط ، وقد قيل : في ولد النعجة : إنه جذع في ستة أشهر ، أو تسعة أشهر ، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه . وفي القاموس : والثنية : الناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير : ثني ، والفرس : الداخلة في الرابعة ، والشاة : في الثالثة كالبقرة . انتهى منه .

وقد علمت مما مر أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة ، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن ، فمن ضحى بمسنة ، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها فضحيته مجزئة إجماعا .

[ ص: 210 ] واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك ، وهذه مذاهبهم وأدلتها .

فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه : إلى أن المجزئ في الضحية : جذع الضأن ، وثني المعز والبقر ، والإبل . وجذع الضأن عندهم : هو ما أكمل سنة على المشهور ، وثني المعز عندهم : هو ما أكمل سنة ، ودخل في الثانية دخولا بينا ، فالدخول في السنة الثانية ، دخولا بينا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن ، وثني المعز .

ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية أن جذع الضأن عندهم ، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم ، وأن الثني إجزاؤه مطلق ، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولا بينا من تحقيق المناط ، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم . والثني عندهم من الإبل : ابن خمس سنين ، والذكر والأنثى سواء .

ومعلوم أن الذكورة ، والأنوثة في الضحايا والهدايا ، وصفان طرديان ، لا أثر لواحد منهما في الحكم ، فهما سواء . وقال بعض المالكية : إن الثني من البقر : ابن أربع سنين . والظاهر : أنه غير مخالف للقول الأول ، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة .

وقال ابن حبيب من المالكية : والثني من الإبل ابن ست سنين ، والظاهر أيضا أنه غير مخالف للقول الأول ; لأن المراد به ابن خمس ، ودخل في السادسة ، فإن قيل ظاهر . . . سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم : لا فرق بينها ، وبين الجذع الذكر ; لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان ، لا أثر لهما في الحكم .

ولكن ظاهر الحديث ، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث ، لا يذبحها ، إلا من تعسرت عليه المسنة ، التي هي الثنية ; لأن لفظ الحديث المتقدم : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " .

فالجواب أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة ، وظاهره أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة ، أو لم يعسر ، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين ، إلا ما روي عن ابن عمر ، والزهري : من أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ مطلقا ; لظاهر هذا الحديث .

قال النووي : في شرحه لحديث مسلم هذا ما نصه : قال العلماء المسنة هي الثنية : من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير [ ص: 211 ] الضأن في حال من الأحوال ، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري ، وغيره من أصحابنا أنه قال : يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن ، وحكي هذا عن عطاء ، وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ ، سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري ، أنهما قالا : تجزئ ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب ، والأفضل وتقديره : يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال ، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه ، وابن عمر والزهري : يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " لا تذبحوا إلا مسنة " ، نهي صريح عن ذبح غير المسنة ، التي هي الثنية . والنهي : يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، إلا إذا وجد صارف عنه ، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى ، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة ، ومناقشة أدلتهم ، وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة : فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة ، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء ، وأما غير الضأن : فلا يجزئ عنه منه إلا الثنية ، أو الثني . وقد قدمنا كلام أهل العلم ، واللغة في سن الجذع ، والثني والجذعة والثنية ، والوجه الذي حكاه الرافعي أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط ، كما صرح به النووي . وأما مذهب أبي حنيفة : فهو كمذهب الشافعي ، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة ، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر .

وقال صاحب " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " ، ما نصه : والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء ، وذكر الزعفراني : أنه ابن سبعة أشهر . والثني من الضأن ، والمعز ابن سنة ، ومن البقر : ابن سنتين ، ومن الإبل : ابن خمس سنين ، وفي القرب : الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة ، ومن البقر والشاة في السنة الثانية ، ومن الخيل في الرابعة ، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة ، ومن الضأن لثمانية أشهر . انتهى منه .

[ ص: 212 ] والأصح : هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء ، وأهل اللغة ، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة ، ولا يجوز من غير الضأن : إلا الثني ، والجذع من الضأن عندهم : ما له ستة أشهر ، ودخل في السابع ، وثني المعز عندهم : إذا تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، وثني البقر عندهم : إذا تمت له سنتان ، ودخل في الثالثة ، وثني الإبل عندهم : إذا تمت له خمس سنين ، ودخل في السادسة . قاله ابن قدامة في " المغني " : وقال أيضا " قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني ، ونرى أنه إنما سمي ثنيا ; لأنه ألقى ثنيتيه . وأما البقرة فهي التي لها سنتان ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تذبحوا إلا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان ، وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر . انتهى كلام " المغني " . وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام ، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن والثني من غيره مع بعض الاختلاف ، الذي رأيت في سن الجذع والثني .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي : هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم : أنه لا يجزئ في الأضحية : الجذع إلا من الضأن خاصة ، ومن غير الضأن وهو المعز ، والإبل والبقر : لا يجزئ إلا الثني . فما فوقه . والذكر والأنثى سواء في الهدايا ، والأضاحي كما تقدم .

والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " ، أنه متعين بحمله على الاستحباب ، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي ، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم : هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجذع من الضأن يجزئ ، وظاهرها ولو كان المضحي قادرا على المسنة ، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه ذكرها في محل واحد ، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نعم أو نعمت الأضحية : الجذع من الضأن " ومنها ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، عن أم بلال بنت هلال ، عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجوز الجذع من الضأن ضحية " . ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجه ، عن مجاشع بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية " ومنها ما رواه النسائي ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : " ضحينا [ ص: 213 ] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجذع من الضأن " اهـ . بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، فتصلح بمجموعها للاحتجاج ، وتعتضد بأن عامة أهل العلم ، على العمل بها ، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري . وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم : على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ ، وهو كذلك ، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة : " ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، دليل : على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية . قال البخاري في صحيحه : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " .

حدثنا مسدد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا مطرف ، عن عامر عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ، قال : ضحى خال لي يقال له : أبو بردة ، قبل الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " شاتك شاة لحم ، فقال : يا رسول الله ، إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : " اذبحها ولا تصلح لغيرك " انتهى منه . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء : " ضح بها ولا تصلح لغيرك " . وفي لفظ له عنه : " ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك " .

والروايات بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح : بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما : وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ . فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح ، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة .

فإن قيل : جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ضح به أنت " ، وهذا لفظ البخاري في صحيحه ، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور - رضي الله عنه - قال : " قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ضحايا فأصابني جذع ، فقلت : يا رسول الله ، أصابني جذع ، فقال : " ضح به " انتهى منه . وروايات هذا الحديث الصحيح ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يضحي بجذع المعز ; لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز ، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع . وقال ابن الأثير في " النهاية " : والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى ، وأتى عليه حول . وهذا حديث متفق عليه [ ص: 214 ] فيه الدلالة الصريحة على جواز التضحية بجذع المعز ، وذكر ابن حجر في " الفتح " أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعقبة : " ولا رخصة فيها لأحد بعدك " ، وقال ابن حجر : إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة وإن حاول بعضهم تضعيفها .

فالجواب أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة ، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم ، ويزيده إشكالا ، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - لجماعة آخرين . قال ابن حجر في " الفتح " : فقد أخرج أبو داود ، وأحمد ، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عتودا جذعا ، فقال : " ضح به " . فقلت : إنه جذع أفأضحي ؟ قال : " نعم ضح به " ، فضحيت به ، لفظ أحمد إلى أن قال : وفي الطبراني في الأوسط ، من حديث ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به ، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة ، وفي سنده ضعف ، ولأبي يعلى ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا جذع من الضأن مهزول ، وهذا جذع من المعز سمين ، وهو خيرهما أفأضحي به ؟ قال : " ضح به ، فإن لله الخير " ، انتهى بواسطة نقل ابن حجر في " فتح الباري " .

وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالا ، فاعلم أن الحافظ في " الفتح " تصدى لإزالة ذلك الإشكال ، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا ، والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث ، وبين حديثي أبي بردة وعقبة ; لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك . وإنما قلت ذلك : لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك ، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير . انتهى محل الغرض منه بلفظه . ومقصوده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " إلا لأبي بردة ، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي ، والذين لم يقل لهم : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، لا إشكال في مسألتهم ; لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز ، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة . وقد تصدى لحله ابن حجر في " الفتح " أيضا ، فقال في موضع : وأقرب ما يقال فيه : إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد ، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني ، ولا مانع من ذلك ; لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره [ ص: 215 ] صريحا انتهى محل الغرض منه . وقال في موضع آخر : وإن تعذر الجمع الذي قدمته ، فحديث أبي بردة أصح مخرجا ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الجمع الذي ذكره ابن حجر ، فالظاهر عندي : أنه لا يصح . وقوله : لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه - رحمه الله - ، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره ; لأن لفظة " لن " ، تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن ، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره ، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله : " عن أحد بعدك " ، نكرة في سياق النفي ، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى .

والصواب : الترجيح بين الحديثين ، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، فيه أصح سندا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة ، فيجب تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة ، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير ، والله تعالى أعلم .

فإن قيل : ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة : لن : لا تدل على تأبيد النفي . قال ابن هشام في " المغني " في الكلام على لن : ولا تفيد توكيد النفي ، خلافا للزمخشري في كشافه ، ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه ، وكلاهما دعوى بلا دليل ، قيل : ولو كانت للتأبيد ، لم يقيد منفيها باليوم في : فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، ولكان ذكر الأبد في : ولن يتمنوه أبدا [ 2 \ 95 ] ، تكرارا والأصل عدمه انتهى محل الغرض منه .

فالجواب أن قول الزمخشري بإفادة لن : التأبيد يجب رده ; لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعما أن قوله لموسى : لن تراني [ 7 \ 143 ] ، تفيد فيه لفظة لن تأبيد النفي ، فلا يرى الله عنده أبدا لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها . وقد بينا مرارا أن رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة . ولو كانت ممنوعة عقلا في الدنيا لما قال نبي الله موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ; لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى ، وأنها ممنوعة شرعا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة ، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها [ ص: 216 ] النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة ، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص .

وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف ، وعدم إفادتها لذلك ، فعلى القول : بأنها تفيد التأبيد فقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، يدل على تأبيد نفي الإجزاء ، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد ، فلا تقل عن الظهور فيه ، حتى يصرف عنه صارف ، وبذلك كله تعلم أن الجمع بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة بن عامر ، كالمتعذر فيجب الترجيح ، وحديث أبي بردة : أرجح . والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا .

التالي السابق


الخدمات العلمية