صفحة جزء
مسألة

اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، وقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا ، والعمرة في اللغة الزيارة .

ومنه قول الراجز :

لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وخبر

وهي في الشرع : زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام ، وطواف وسعي وحلق أو تقصير .

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة ، وجب عليه إتمامها ، ولا [ ص: 228 ] يجوز له قطعها وعدم إتمامها ، لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله .

أما حكم استئناف فعلها ، فقد اختلف فيه أهل العلم ، فذهب بعضهم : إلى أنها واجبة في العمر كالحج ، وذهب بعضهم : إلى أنها غير واجبة أصلا ، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة ، وممن قال : بأنها فرض في العمر مرة : الشافعي في الصحيح من مذهبه . قال النووي : وبه عمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وطاوس ، وعطاء ، وابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومسروق ، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي ، وعبد الله بن شداد ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود .

وممن قال : بأنها سنة في العمر ليست بواجبة : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وحكاه ابن المنذر وغيره ، عن النخعي قاله النووي . وقال ابن قدامة في " المغني " : وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين . وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ليست بواجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي انتهى محل الغرض منه .

وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة : هل هي فرض في العمر ، أو سنة ؟ فدونك أدلتهم ، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها .

أما الذين قالوا : العمرة فرض في العمر ، فقد احتجوا بأحاديث :

منها : حديث أبي رزين العقيلي ، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه : " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : " حج عن أبيك واعتمر " ، رواه أحمد وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ومحل الدليل منه قوله : " واعتمر " ; لأنه صيغة أمر بالعمرة ، مقرونة بالأمر بالحج ، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك ، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قال : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح .

ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية ، بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل ، لا إتمامها بعد الشروع ، [ ص: 229 ] وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا .

وأن الظاهر أن المتبادر منها : وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت : " الحج والعمرة فريضتان ، لا يضرك أيهما بدأت " اهـ .

ومن أدلتهم على وجوب العمرة : ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل : " وأن تحج وتعتمر " ، أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، وغيرهم . ورواه المجد في " المنتقى " ، بلفظ قال : " يا محمد ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان " ، الحديث . وأنه قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، ثم قال المجد : رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد ثابت صحيح . ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه " المخرج على الصحيحين " .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل على النساء من جهاد ؟ قال : " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " ، اهـ . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وابن ماجه ، وإسناده صحيح ، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد : لا أعلم حديثا أجود في إيجاب العمرة منه ، وهو حديث أبي رزين العقيلي ، الذي فيه : " حج عن أبيك واعتمر " ، أن صيغة الأمر في قوله : " واعتمر " ، واردة بعد سؤال أبي رزين ، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال : إنما تقتضي الجواز لا الوجوب ; لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز ، والخلاف في هذه المسألة معروف .

وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه ، وأجابوا عن آية : وأتموا الحج ، بأن المراد بها : الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه ، وأجابوا عن حديث : " الحج والعمرة فريضتان " ، الحديث . بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ثم هو عن ابن سيرين ، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفا ، على زيد من طريق ابن سيرين ، وإسناده أصح ، وصححه الحاكم ، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن عطاء ، عن جابر ، وابن لهيعة ضعيف . وقال ابن عدي : [ ص: 230 ] هو غير محفوظ ، عن عطاء ، انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور : ليس بصالح للاحتجاج ، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل ، عن عمر مرفوعا بلفظ : " وأن تحج وتعتمر " ، بجوابين : أحدهما أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم ، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح ، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة .

والجواب الثاني : هو ما ذكر الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ، في شرحه للحديث المذكور ، ونص كلامه : فإن قيل : إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام : يدل على الوجوب ، فيقال : ليس كل أمر من الإسلام واجبا . والدليل على ذلك : حديث شعب الإسلام ، والإيمان ، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع ، انتهى منه ، وله وجه من النظر .

وأجابوا عن حديث عائشة : بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " ، بأن لفظة : " عليهن " : ليست صريحة في الوجوب ، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة ، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة ، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج ، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة .

هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ، ومناقشة مخالفيهم لهم .

أما القائلون : بأن العمرة سنة لا فرض ، فقد احتجوا أيضا بأدلة :

منها : ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن جابر - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العمرة ، أواجبة هي ؟ فقال : " لا وأن تعتمر خير لك " ، وفي رواية : " أولى لك " ، وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله ، عن جابر بنحوه ، ورواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر . وقال ابن حجر في " التلخيص " ، وفي الباب عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : رواه الدارقطني ، وابن حزم والبيهقي ، وإسناده ضعيف . وأبو صالح : ليس هو ذكوان السمان ، بل هو : أبو صالح ماهان الحنفي ، كذلك رواه الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن الثوري ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " ، ورواه ابن ماجه من حديث طلحة ، وإسناده ضعيف . والبيهقي من حديث ابن عباس ، ولا يصح من ذلك شيء .

[ ص: 231 ] واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة " .

هذا هو حاصل أدلة من قالوا : بأن العمرة غير واجبة .

وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم ، قالوا : أما حديث سؤال الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجوب العمرة ، وأنه أجابه : بأنها غير واجبة ، وأنه إن اعتمر تطوعا ، فهو خير له بأنه حديث ضعيف ، وتصحيح الترمذي له مردود ، ووجه ذلك أن في إسناده : الحجاج بن أرطاة ، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارا ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج ، فإن الأكثر على تضعيفه ، والاتفاق على أنه مدلس ، وقال النووي : ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه ، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه ، وقد نقل الترمذي ، عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شيء ثابت : أنها تطوع . وأفرط ابن حزم فقال : إنه مكذوب باطل . انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور : إنه موقوف على جابر ، وقال كذلك : رواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر انتهى منه .

هذا هو حاصل حجج من قالوا : إن العمرة سنة لا واجبة .

وقال الشوكاني : في " نيل الأوطار " ، بعد أن ساق الأحاديث ، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه : قال الحافظ : ولا يصح من ذلك شيء ، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ويؤيده ما عند الطبراني : عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة ، فأجره كعمرة " ، إلى أن قال : والحق عدم وجوب العمرة ; لأن البراءة الأصلية ، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف ، ولا دليل يصلح لذلك ، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية : بعدم الوجوب ، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث " بني الإسلام على خمس " ، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين ، لا يقل عن درجة الحسن لغيره ، فيجب الترجيح بينهما ، وقد رأيت الشوكاني [ ص: 232 ] رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية ، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية : ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه :

الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل : على الخبر المبقي على البراءة الأصلية ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر على إباحة . . . إلخ .

لأن معنى قوله : " وناقل " أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها . وعزاه في شرحه المسمى : " نشر البنود للجمهور " ، وهو المشهور عند أهل الأصول .

الثاني أن جماعة من أهل الأصول : رجحوا الخبر الدال على الوجوب ، على الخبر الدال على عدمه . ووجه ذلك : هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، المذكور آنفا :

ثم هذا الآخر . . . . على إباحة إلخ ; لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة : هو الخبر الدال على الأمر ، فالأول الدال على النهي ; لأن درء المفاسد ، مقدم على جلب المصالح ، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب ، فيدخل فيه المسنون والمندوب ; لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل .

الثالث : أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية