صفحة جزء
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق . فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر ، على ما قاله جمع من أهل العلم .

[ ص: 233 ] الفرع الثاني : اعلم أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن " عمرة في رمضان تعدل حجة " . وفي بعض روايات الحديث في الصحيح : " حجة معي " .

الفرع الثالث : اعلم أن التحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعا ، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة ، إلا أربع عمر . الأولى : عمرة الحديبية في ذي القعدة ، من عام ست ، وصده المشركون ، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي ، كما هو معلوم .

الثانية : عمرة القضاء في ذي القعدة ، عام سبع : وهي التي وقع عليها صلح الحديبية .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه . الثالثة : عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان . الرابعة : العمرة التي قرنها ، مع حجة الوداع . هذا هو التحقيق .

وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرناه من أحكام العمرة ; لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج . والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] . صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر ، كما قدمنا مرارا أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، على الأصح ، إلا لدليل صارف عنه .

ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] ، ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك ، فقال : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] ، فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال ، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه ، وكذلك قوله في سورة " البقرة " : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه الآية [ 2 \ 270 ] . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن ، إن لم يكن وافيا بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة . ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به ، والذي لا يجب الإيفاء به .

اعلم أولا أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان :

الأولى : أن يكون فيه طاعة لله .

[ ص: 234 ] والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله ، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما هو معصية لله .

والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته ، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به .

والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة أن المنذور إن كان طاعة لله ، وجب الإيفاء به ، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء ، أو ينذر ذبح هدي تطوعا أو صوم أيام تطوعا ، ونحو ذلك . فإن هذا ونحوه ، يجب بالنذر ، ويلزم الوفاء به . وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف ، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها ، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك .

أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فلا أثر لنذره ; لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر ، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به ، وإن كان جائزا لا نهي فيه ، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به .

أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه ذلك .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ . وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنع الإيفاء بنذر المعصية .

وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفا .

وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح ، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنعه في نذر المعصية .

فاعلم أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز : هو أنه ثبت أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، [ ص: 235 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد ، وليتم صومه " انتهى محل الغرض من صحيح البخاري . وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة ، وهو الصوم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإتمامه ، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحا لا طاعة ، كترك الكلام ، وترك القعود ، وترك الاستظلال ، أمره بعدم الوفاء به ، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به .

واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار ، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية