صفحة جزء
قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانا وعنادا .

والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن ; كقوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] وقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] وفي يونس في الكلام على قوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 15 ] إلى غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يخلف الله وعده الظاهر أن المراد بالوعد هنا : هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله .

[ ص: 276 ] والمعنى : هو منجز ما وعدهم به من العذاب ، وإذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] وقوله تعالى : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] وقوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر .

ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] فإنه قال في هذه الآية في النار : وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد ، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية ، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة ، وأنه لا يخلف وعده بذلك ، جاء مبينا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " ق " قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 ] والصحيح أن المراد بقوله : ما يبدل القول لدي أن ما أوعد الكفار به من العذاب ، لا يبدل لديه ، بل هو واقع لا محالة ، وقوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] أي : وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كما أوضحناه في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وأوضحنا أن ما أوعد به الكفار لا يخلف بحال ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، أما ما أوعد به عصاة المسلمين ، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية [ 4 \ 48 ] .

وبالتحقيق الذي ذكرنا : تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا ، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير ، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله ، وأما إن كان المتوعد به شرا ، فإنه وعيد وإيعاد ، قالوا : إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، وذكروا عن الأصمعي أنه قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [ ص: 277 ]

ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا انثنى عن سطوة المتهدد     فإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي



فيه نظر من وجهين .

الأول : هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار ، والعذاب كقوله تعالى : النار وعدها الله الذين كفروا [ 22 \ 72 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ; لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه ، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به لهم ، لأنه مقترن بقوله : ويستعجلونك بالعذاب [ 22 \ 47 ] فتعلقه به هو الظاهر .

الثاني : هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال ; لأن ادعاء جواز إخلافه ، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران :

الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا ، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم ، وهذا لا شك في بطلانه .

الثاني : ما ذكرنا من الآيات الدالة : على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب ، كقوله : قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 - 29 ] وقوله تعالى فيهم : فحق وعيد [ 50 \ 14 ] وقوله فيهم : فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ومعنى حق : وجب وثبت ، فلا وجه لانتفائه بحال ، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية