صفحة جزء
قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه - جل وعلا - بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار ، والعيون ، ونحو ذلك . وأنه - جل وعلا - قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله " بقدر " أي : بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم ، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم ، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة ، دون المفسدة سبحانه - جل وعلا - ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه ، وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع .

[ ص: 328 ] الأولى : التي هي كونه : أنزله بقدر أشار إليها في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

والثانية : التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله - جل وعلا - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] والينبوع : الماء الكثير وقوله : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] على ما قدمنا في الحجر .

والثالثة : التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] ويشبه معناها قوله تعالى : لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ; لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه ، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم ، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله [ 24 \ 43 ] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن ، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت الآية [ 7 \ 57 ] فقوله : ثقالا جمع ثقيلة ، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى : وينشئ السحاب الثقال [ 13 \ 12 ] جمع سحابة ثقيلة .

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن ، ثم يخرجه من خلال السحاب ، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة ، وبين - جل وعلا - أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء ، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة ، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم ، ليبتلي أهلها في شكر النعمة ، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء ، ويقل المطر عليهم في بعض السنين ، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم ، ولا تثمر أشجارهم ، ليبتليهم بذلك ، هل يتوبون إليه ، ويرجعون إلى ما يرضيه .

وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم ، وأنعامهم ، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به ، وذلك في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 25 \ 48 - 50 ] .

[ ص: 329 ] ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار ، وإنما نزل بطبيعته ، فالمنزل له عندهم : هو الطبيعة ، وأن طبيعة الماء التبخر ، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح ، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته ، ثم يجتمع ، ثم يتقاطر ، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له ، وأنه هو المطر . فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله ، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده ، فمثل هؤلاء داخلون في قوله فأبى أكثر الناس إلا كفورا بعد قوله : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا .

وقد صرح في قوله : ولقد صرفناه أنه تعالى ، هو مصرف الماء ، ومنزله حيث شاء كيف شاء . ومن قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . هذا لفظ مسلم - رحمه الله - في صحيحه ، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة ، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار ، والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر ، إلا أنهم يسندون فعل ذلك للفاعل المختار - جل وعلا - ، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد :


لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر     كبنات البحر يمأدن إذا
أنبت الصيف عساليج الخضر .



فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر .

وقول أبي ذؤيب الهذلي :

سقى أم عمرو كل آخر ليلة     حناتم غر ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت     متى لجج خضر لهن نئيج
.

ولا شك أن خالق السماوات والأرض - جل وعلا - ، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية