صفحة جزء
وقال ابن حجر في الكلام على حديث أسامة المذكور ما نصه : وخالف فيه يعني : منع ربا الفضل ابن عمر ثم رجع ، وابن عباس ، واختلف في رجوعه ، وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية ، سألت أبا مجلز عن الصرف فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ، ما كان منه عينا بعين ، يدا بيد ، وكان يقول : إنما الربا في النسيئة ، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث ، وفيه التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، مثلا بمثل ، فما زاد فهو ربا ، فقال ابن عباس : أستغفر الله وأتوب إليه ، فكان ينهى عنه أشد النهي . ا هـ من " فتح الباري " بلفظه . وفي " تكملة المجموع " لتقي الدين السبكي بعد أن ساق حديث حيان هذا ما نصه : رواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وفي حكمه عليه بالصحة نظر ; فإن حيان بن عبيد الله المذكور ، قال ابن عدي : عامة ما يرويه إفرادات يتفرد بها ، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه ، ثم قال : وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس ، تفرد به حيان ، قال البيهقي : وحيان تكلموا فيه ، واعلم أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره ، وتبيين صحته من سقمه ; لأمر غير ما نحن فيه ، وهو قوله : وكذلك ما يكال ويوزن ، وقد تكلم فيه بنوعين من الكلام أحدهما تضعيف الحديث جملة ، وإليه أشار البيهقي ، [ ص: 169 ] وممن ذهب إلى ذلك ابن حزم ، أعله بشيء أنبه عليه ، لئلا يغتر به : وهو أنه أعله بثلاثة أشياء : أحدها : أنه منقطع ; لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس .

والثاني : لذكره أن ابن عباس رجع ، واعتقاد ابن حزم : أن ذلك باطل ; لمخالفة سعيد بن جبير .

والثالث : أن حيان بن عبيد الله مجهول .

فأما قوله : إنه منقطع فغير مقبول ; لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس ، وسمع منه ، وأدرك أبا سعيد ومتى ثبت ذلك لا تسمع دعوى عدم السماع إلا بثبت ، وأما مخالفة سعيد بن جبير فسنتكلم عليها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وأما قوله إن حيان بن عبيد الله مجهول ، فإن أراد مجهول العين فليس بصحيح بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا محمد بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ، ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ، وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي ، بصري سمع أبا مجلز لاحق بن حميد والضحاك ، وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري ، وابن أبي حاتم ترجمة ، فذكر كل منهما بعض ما ذكرته ، وله ترجمة في كتاب ابن عدي أيضا ، كما أشرت إليه ، فزال عنه جهالة العين ، وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه .

فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال : حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق ، فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث ، نشأ في الحديث عارف به ، مصنف متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي المشهود له فتقبل شهادته له ، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق . وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا .

وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روى عنهم ، وقال : إنه سأل أباه عنه فقال : صدوق ، ثم قال : وعن سليمان بن علي الربعي ، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي ، قال سمعته يأمر بالصرف ، يعني ابن عباس ، وتحدث ذلك عنه ، ثم [ ص: 170 ] بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة ، فقلت : إنه بلغني أنك رجعت ، قال : نعم ، إنما كان ذلك رأيا مني ، وهذا أبو سعيد حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصرف ، رويناه في سنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد ، بإسناد رجاله على شرط الصحيحين ، إلى سليمان بن علي ، وسليمان بن علي روى له مسلم .

وقال ابن حزم : إنه مجهول لا يدرى من هو ؟ وهو غير مقبول منه ; لما تبين . ثم قال : وعن أبي الجوزاء قال : كنت أخدم ابن عباس - رضي الله عنهما - تسع سنين ، ثم ساق حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس ، الذي قدمنا عن البيهقي ، ثم قال : رواه البيهقي في " السنن الكبرى " بإسناد فيه أبو المبارك ، وهو مجهول .

ثم قال : وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، بضم النون وإسكان العين : أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس ، فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، مثلا بمثل ، فمن زاد فقد أربى " فقال ابن عباس : أتوب إلى الله مما كنت أفتي به ، ثم رجع . رواه الطبراني بإسناد صحيح ، وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ، ثقة متفق عليه ، معروف بالرواية عن أبي سعيد ، وابن عمر ، وغيرهما من الصحابة ، وعن أبي الجوزاء قال : سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين ، يدا بيد ، فقال : لا أرى فيما كان يدا بيد بأسا ، ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه ، رواه الطبراني بإسناد حسن . وعن أبي الشعثاء قال : سمعت ابن عباس يقول : اللهم إني أتوب إليك من الصرف ; إنما هذا من رأيي ، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه الطبراني ورجاله ثقات ، مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم .

عن عطية العوفي بإسكان الواو وبالفاء قال : قال أبو سعيد لابن عباس : تب إلى الله تعالى ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، قال : ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، وقال : " إني أخاف عليكم الربا " ، قال فضيل بن مرزوق : قلت لعطية : ما الربا ؟ قال : الزيادة والفضل بينهما ، رواه الطبراني بسند صحيح ، إلى عطية . وعطية من رجال السنن . قال يحيى بن معين : صالح وضعفه غيره ، فالإسناد بسببه ليس بالقوي .

وعن بكر بن عبد الله المزني : أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس بالصرف ، ما كان منه يدا [ ص: 171 ] بيد إنما الربا في النسيئة ، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب ، حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري ، وقال له : يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته ؟ قال : أوفعلت ؟ ! قال : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل : تبره وعينه . فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي ، وإني أستغفر الله تعالى منه ، وأتوب إليه ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، تبره وعينه ، فمن زاد واستزاد فقد أربى " ، وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة ، رواه الطبراني بسند فيه مجهول ، وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم . وهكذا وقع في روايتنا : فمن زاد واستزاد بالواو لا بأو والله أعلم .

وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب " المعاني والآثار " بإسناد حسن إلى أبي سعيد قال : قلت لابن عباس : أرأيت الذي يقول الدينار بالدينار ؟ وذكر الحديث ، ثم قال : قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس وروى الطحاوي أيضا عن نصر بن مرزوق بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء : أن ابن عباس نزل عن الصرف وهذا أصرح من رواية مسلم ، وروى الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن ، إلى عبد الله بن حسين : أن رجلا من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر : إن ابن عباس قال وهو علينا أمير : من أعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثا إلى أن قال : فقيل لابن عباس : ما قال ابن عمر ؟ قال : فاستغفر ربه ، وقال : إنما هو رأي مني .

وعن أبي هاشم الواسطي واسمه يحيى بن دينار عن زياد قال : كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما ، ذكره ابن عبد البر في " الاستذكار " ، وذكر أيضا عن أبي حرة قال : سأل رجل ابن سيرين عن شيء فقال : لا علم لي به . فقال الرجل : أن يكون فيه برأيك . فقال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك ، إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ، ثم رجع ، وذكر أيضا عن ابن سيرين عن الهذيل بالذال المعجمة ، ابن أخت محمد بن سيرين قال : سألت ابن عباس عن الصرف فرجع عنه فقلت : إن الناس يقولون فقال : الناس يقولون ما شاءوا . اهـ من " تكملة المجموع " ، ثم قال بعد هذا : فهذه عدة روايات صحيحة وحسنة من جهة خلق من أصحاب ابن عباس تدل على رجوعه ، وقد روي في [ ص: 172 ] رجوعه أيضا غير ذلك ، وفيما ذكرته غنية إن شاء الله تعالى .

وفي " تكملة المجموع " أيضا قبل هذا ما نصه : وروى عن أبي الزبير المكي ، واسمه محمد بن تدرس بفتح التاء ودال ساكنة وراء مضمومة وسين مهملة ، قال : سمعت أبا أسيد الساعدي ، وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين فقال له أبو أسيد الساعدي وأغلظ له قال : فقال ابن عباس : ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثل هذا يا أبا أسيد ؟ فقال أبو أسيد : أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الدينار بالدينار ، وصاع حنطة بصاع حنطة ، وصاع شعير بصاع شعير ، وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بينهما في شيء من ذلك " .

فقال ابن عباس : إنما هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم أسمع فيه بشيء
، رواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : إنه صحيح على شرط مسلم - رحمه الله - وفي سنده عتيق بن يعقوب الزبيري ، قال الحاكم : إنه شيخ قرشي من أهل المدينة وأبو أسيد بضم الهمزة .

وروينا في " معجم الطبراني " من حديث أبي صالح ذكوان أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال : هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يدا بيد ، قال أبو صالح : فسألت أبا سعيد بما قال ابن عباس ، وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد ، والتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري فقال : يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو بزيادة يدا بيد ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان : سمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه الطبراني بإسناد حسن وقد قدمنا رجوع ابن عمر وابن مسعود عن ذلك ، وقد قدمنا الجواب عما روي عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم - وثبت عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع وهي شهادة على نفي مطلق ، والمثبت مقدم على النافي ; لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه النافي ، وقال ابن عبد البر : رجع ابن عباس أو لم يرجع ، في السنة كفاية عن قول كل واحد ، ومن خالفها رد إليها ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة . اهـ .

وقال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ما نصه : وأما ما أخرجه مسلم ، عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يدا بيد كما تقدم ، فليس ذلك مرويا عن [ ص: 173 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقة ، ولو كان مرفوعا ، لما رجع ابن عباس واستغفر ، لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم ، وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على تحريم ربا الفضل ، وقال : حفظتما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم أحفظ ، وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال : كان ذلك برأيي .

وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركت رأيي إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب ; لأنها أخص منه مطلقا . اهـ منه بلفظه ، وقد ذكر غير واحد أن الإجماع انعقد بعد هذا الخلاف على منع ربا الفضل .

قال : في " تكملة المجموع " ما نصه : الفصل الثالث في بيان انقراض الخلاف في ذلك ودعوى الإجماع فيه ، قال ابن المنذر : أجمع علماء الأمصار مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق ، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام ، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد بن علي ، أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ، ولا فضة بفضة ، ولا بر ببر ، ولا شعير بشعير ، ولا تمر بتمر ، ولا ملح بملح ، متفاضلا يدا بيد ، ولا نسيئة ، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ . اهـ محل الغرض منه بلفظه .

ونقل النووي في " شرح مسلم " إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة قال : وهذا يدل على نسخه ، وقد استدل ابن عبد البر على صحة تأويله لحديث أسامة بإجماع الناس ، ما عدا ابن عباس عليه . اهـ ، وعلى فرض أن ابن عباس لم يرجع عن ذلك فهل ينعقد الإجماع مع مخالفته ؟ فيه خلاف معروف في الأصول ، هل يلغي الواحد والاثنان أو لا بد من اتفاق كل وهو المشهور ، وهل إذا مات وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعا ؟ وهو الظاهر ، أو لا يكون إجماعا ; لأن المخالف الميت لا يسقط قوله بموته ، خلاف معروف في الأصول أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية