صفحة جزء
[ ص: 368 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أن رجم الزانيين المحصنين دلت عليه آيتان من كتاب الله ، إحداهما نسخت تلاوتها ، وبقي حكمها ، والثانية : باقية التلاوة والحكم ، أما التي نسخت تلاوتها ، وبقي حكمها فهي قوله تعالى : ( الشيخ والشيخة ) إلى آخرها ; كما سيأتي ، وكون الرجم ثابتا بالقرآن ثابت في الصحيح .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت :

حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم : عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى ، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها ، إذ رجع إلى عبد الرحمن ، فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ، فغضب عمر ثم قال : إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، الحديث بطوله .

وفيه : إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ووعيناها ، رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا
قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ،
انتهى محل الغرض من صحيح البخاري .

وفيه : أن الرجم نزل في القرآن في آية من كتاب الله ، وكونها لم تقرأ في الصحف ، يدل على نسخ تلاوتها ، مع بقاء حكمها ; كما هو ثابت في الحديث المذكور .

وفي رواية في البخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - : لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وإن الرجم حق على من زنى ، وقد أحصن إذا قامت البينة ، أو كان الحمل ، أو الاعتراف .

قال سفيان : كذا حفظت : ألا وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده .

[ ص: 369 ] وقال ابن حجر في " فتح الباري " ، في شرحه لهذه الرواية الأخيرة ، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي ، عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه ، فقال بعد قوله : أو الاعتراف ، وقد قرأناها : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) ، وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورجمنا بعده ، فسقط من رواية البخاري من قوله : وقد قرأناها إلى قوله : البتة ، ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدا ، فقد أخرجه النسائي عن محمد بن منصور ، عن سفيان كرواية جعفر ، ثم قال : لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث : ( الشيخ والشيخة . . . ) غير سفيان ، وينبغي أن يكون وهم في ذلك .

قلت : وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ، ويونس ، ومعمر ، وصالح بن كيسان ، وعقيل ، وغيرهم من الحفاظ عن الزهري .

وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما صدر عمر من الحج ، وقدم المدينة خطب الناس فقال : أيها الناس ، قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا ، والذي نفسي بيده ، لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) ، قال مالك : الشيخ والشيخة : الثيب والثيبة .

ووقع في الحلية في ترجمة داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر : لكتبتها في آخر القرآن .

ووقعت أيضا في هذا الحديث في رواية أبي معشر الآتي التنبيه عليها ، في الباب الذي يليه فقال متصلا بقوله : قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده ، ولولا أن يقولوا : كتب عمر ما ليس في كتاب الله ، لكتبته قد قرأنا : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) .

وأخرج هذه الجملة النسائي وصححه الحاكم ، من حديث أبي بن كعب ، قال : ولقد كان فيها ، أي سورة " الأحزاب " ، آية الرجم : ( الشيخ ) ، فذكر مثله .

[ ص: 370 ] ومن حديث زيد بن ثابت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الشيخ والشيخة " مثله ، إلى قوله : " البتة " .

ومن رواية أسامة بن سهل أن خالته أخبرته ، قالت : لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرجم ، فذكره إلى قوله : " البتة " ، وزاد " بما قضيا من اللذة " .

وأخرج النسائي أيضا أن مروان بن الحكم قال لزيد : ألا تكتبها في المصحف ؟ قال : لا ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان ولقد ذكرنا ذلك ، فقال عمر : أنا أكفيكم ، فقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكتبني آية الرجم ، فقال : " لا أستطيع " .

وروينا في فضائل القرآن لابن الضريس من طريق يعلى وهو ابن حكيم ، عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس ، فقال : لا تشكوا في الرجم فإنه حق ، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف ، فسألت أبي بن كعب ، فقال : أليس أتيتني ، وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدفعت في صدري ، وقلت : استقرئه آية الرجم ، وهم يتسافدون تسافد الحمر ، ورجاله ثقات ، وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها ، وهو الاختلاف .

وأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت ، قال : كان زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص يكتبان في المصحف ، فمرا على هذه الآية ، فقال زيد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الشيخ والشيخة فارجموهما البتة " ، فقال عمر : لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : أكتبها ؟ فكأنه كره ذلك ، فقال عمر : ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ، ولم يحصن جلد ، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم .

فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها ، انتهى بطوله من فتح الباري .

وفيه الدلالة الظاهرة على ما ذكرنا من أن آية الرجم منسوخة التلاوة ، باقية الحكم ، وأنها مخصصة لآية الجلد ، على القول بعدم الجمع بين الرجم والجلد ، كما تقدم .

ولكن ما أشار إليه ابن حجر من استفادة سبب نسخ تلاوتها من بعض الأحاديث المذكورة غير ظاهر ; لأن كثيرا من الآيات يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - تخصيص عمومه ، ويوضح المقصود به وإن كان خلاف الظاهر المتبادر منه ، ولم يؤد شيء من ذلك إلى نسخ تلاوته كما هو معلوم ، والآية القرآنية عند نزولها تكون لها أحكام متعددة ، كالتعبد بتلاوتها ، [ ص: 371 ] وكالعمل بما تضمنته من الأحكام الشرعية ، والقراءة بها في الصلاة ، ونحو ذلك من الأحكام ، وإذا أراد الله أن ينسخها بحكمته فتارة ينسخ جميع أحكامها من تلاوة ، وتعبد ، وعمل بما فيها من الأحكام كآية عشر رضعات معلومات يحرمن ، وتارة ينسخ بعض أحكامها دون بعض ، كنسخ حكم تلاوتها والتعبد بها مع بقاء ما تضمنته من الأحكام الشرعية ، وكنسخ حكمها دون تلاوتها ، والتعبد بها كما هو غالب ما في القرآن من النسخ .

وقد أوضحنا جميع ذلك بأمثلته في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الآية [ 16 \ 101 ] ، وله الحكمة البالغة في جميع ما يفعله من ذلك .

فآية الرجم المقصود منها إثبات حكمها ، لا التعبد بها ، ولا تلاوتها ، فأنزلت وقرأها الناس ، وفهموا منها حكم الرجم ، فلما تقرر ذلك في نفوسهم نسخ الله تلاوتها ، والتعبد بها ، وأبقى حكمها الذي هو المقصود ، والله - جل وعلا - أعلم .

فالرجم ثابت في القرآن ، وما سيأتي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا ينافي ذلك ; لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها فصار حكمها من هذه الجهة ، فإنه ثابت بالسنة ، والله تعالى أعلم .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى قالا : حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أنه سمع عبد الله بن عباس يقول : قال عمر بن الخطاب ، وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان ، أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف ، اهـ منه .

فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان ، عن هذا الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، دليل صريح صحيح على أن الرجم ثابت بآية من كتاب [ ص: 372 ] الله ، أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرأها الصحابة ، ووعوها ، وعقلوها وأن حكمها باق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله والصحابة - رضي الله عنهم - فعلوه بعده .

فتحققنا بذلك بقاء حكمها مع أنها لا شك في نسخ تلاوتها مع الروايات التي ذكرنا في كلام ابن حجر ، ومن جملة ما فيها لفظ آية الرجم المذكورة ، والعلم عند الله تعالى .

وأما الآية التي هي باقية التلاوة والحكم ، فهي قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون [ 3 \ 23 ] ، على القول بأنها نزلت في رجم اليهوديين الزانيين بعد الإحصان ، وقد رجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقصة رجمه لهما مشهورة ، ثابتة في الصحيح ، وعليه فقوله : ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، أي : عما في التوراة من حكم الرجم ، وذم المعرض عن الرجم في هذه الآية يدل على أنه ثابت في شرعنا ، فدلت الآية على هذا القول أن الرجم ثابت في شرعنا ، وهي باقية التلاوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية