صفحة جزء
الفرع الخامس : اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت ، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر ، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما ، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى ، فقد اختلف أهل العلم هل تقبل شهادتهم ، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى ، أو لا تقبل ; لأنه لم يشهد أربعة على زنى واحد ، فكل زنى شهد عليه اثنان ، ولا يثبت زنى باثنين .

قال ابن قدامة في " المغني " : الجميع قذفة وعليهم الحد ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم ، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، لأنهم كملوا أربعة ، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد ، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما ، فأما المشهود عليه ، فلا حد عليه في قولهم جميعا ، وقال أبو بكر : عليه الحد ، وحكاه قولا لأحمد ، وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة ، فلم يجب الحد ; ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد ، فالموجب للحد أولى ; لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات ; وقد قال أبو بكر : إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء ، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة ، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله ، انتهى منه ، ثم قال : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت ، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى ، وكانت الزاويتان متباعدتين ، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم ، وحد المشهود عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا حد عليه ; لأن شهادتهم لم تكمل ، ولأنهم اختلفوا في المكان ، فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين ، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم ، سواء تقاربت الزاويتان ، أو تباعدتا ، ولنا أنهما [ ص: 380 ] إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود ، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا ، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين ، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا .

فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين ، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال ، والحد يدرأ بالشبهات ؟

قلنا : ليس هذا بشبهة ، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد ، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب ، والقول في الزمان كالقول في هذا ، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه ، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ، ومتى تقاربا كملت شهادتهم ، انتهى من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد ; فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا ; لأنهما فعلان ، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول ، فلم يثبت واحد منهما . والقول بتلفيق شهادتهم ، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر ، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد ، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة ، وله وجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية