صفحة جزء
المسألة الرابعة والعشرون : في حكم من قذف محصنا بعد موته ، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في " المدونة " : من قذف ميتا فلولده وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك ، ومن قام منهم أخذه بحده ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ; لأنه عيب ، وليس للإخوة ، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام ، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام ، اهـ بواسطة نقل المواق .

وحاصله : أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه ، وإن سفلوا أو واحد من أصوله ، وإن علوا ، ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة ، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد ، فللإخوة والعصبة القيام ، ويحد للمقذوف بطلبهم ، هذا حاصل مذهب مالك في المسألة ، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبا أو أما ، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم ; لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها ; لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرا مسلما ، أما إذا قذفت وهي في الحياة ، فليس لولدها المطالبة ; لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها ، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص ، وتعتبر حصانتها ; لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد ، وأما إن قذفت وهي ميتة ، فإن لولدها المطالبة ; لأنه قدح في نسبه ، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى ، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ، ولذلك تعتبر الحصانة فيه ، ولا تعتبر الحصانة في أمه ; لأن القذف له ، وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال ، وهو قول أصحاب الرأي ; لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة ، فأشبه قذف المجنون ، وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة ، وينقسم بانقسام الميراث ، وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه ; لأنه ليس بمحصن ، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا ، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنا حيا ولا ميتا ; لأنه إذا لم [ ص: 458 ] يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه ميتا أولى ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الملاعنة " : ومن رمى ولدها فعليه الحد " ، يعني : من رماه بأنه ولد زنى ، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك ، فبقذف غيره أولى ; ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين ، ولو كانا ميتين ، والحد إنما وجب للولد ; لأن الحد لا يورث عندهم ، فأما إن قذفت أمه بعد موتها ، وهو مشرك أو عبد ، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي ، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن ، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك ، وأبواه حران مسلمان فعليه الحد ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد : لست لأبيك فعليه الحد ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده ، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه ; لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ، ولأن معنى هذا : أن أمك زنت فأتت بك من الزنى ، فإذا كان من الزنى منسوبا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها ، ولنا ما ذكرناه ; ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد ، لأن الكافر لا يرث المسلم ، والعبد لا يرث الحر ؛ ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميتة بحال ، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها ، والله أعلم ، اهـ بطوله من " المغني " .

وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة ، إن كان لها أولاد ، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد ، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية ، إلا أنه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول ، ويحد بطلب كل منهم ، وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الإخوة والعصبة ، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت ، وأن الشافعية يقولون : إنه ينقسم بانقسام الميراث ، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور ، وأن الحنفية يقولون : إن الحد لا يورث ، وهو ظاهر المذهب الحنبلي ، وأن بعض أهل العلم قال : لا يحد من قذف ميتة بحال .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي ; لأنه مقذوف بقذفها ، خلافا لما في كلام صاحب " المغني " ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف ، وقول صاحب " المغني " : تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى; لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، [ ص: 459 ] لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا ، كما ترى .

والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ; لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها ، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتا أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ; لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ; ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذبا بل يفرح به ; لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقا ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه ، اهـ .

وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد .

واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه .

والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ; لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال ، والعلم عند الله تعالى .

وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذفه هو - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال . وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم أنواع الكفر ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية