صفحة جزء
قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به الآية [ 3 \ 7 ] ، لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف ، فيكون قوله : والراسخون في العلم مبتدأ ، وخبره يقولون ، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده ، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة ، فيكون قوله : والراسخون معطوفا على لفظ الجلالة ، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله : الراسخون في العلم أيضا ، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة .

[ ص: 192 ] قال ابن قدامة في روضة الناظر ما نصه : ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه متفرد بعلم المتشابه ، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال : ويقولون آمنا به بالواو ، أما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ، ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ; ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم : كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هاهنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره ، وأنه صدر من عنده ، كما جاء من عنده المحكم ; ‌‌‌‌‌‌‌‌‌ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة ، وهم الراسخون . ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل ، وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا . اهـ من " الروضة " بلفظه .

ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة ، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه ، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] ، وقوله : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، فالمطابق لذلك أن يكون قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، معناه : أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال : لو كانت الواو في قوله : والراسخون في العلم للنسق ، لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة : والقول بأن الوقف تام على قوله : إلا الله ، وأن قوله : والراسخون ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا .

وممن قال بذلك عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نقله عنهم القرطبي وغيره ، ونقله ابن جرير عن يونس ، عن أشهب ، عن مالك بن أنس ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد .

وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ، والقول بأن الواو عاطفة مروي [ ص: 193 ] أيضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد وغيرهم . وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر :

[ مرفل الكامل ]

الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه



فيحتمل أن يكون والبرق مبتدأ ، والخبر يلمع كالتأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله ، ويحتمل أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعا .

واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله - سبحانه وتعالى - مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال .

قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو : هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع . انتهى منه بلفظه .

قال مقيده عفا الله عنه : يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا : آمنا به كل من عند ربنا بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وهذا ظاهر .

وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره " الكشاف " . والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم .

وقال بعض العلماء : والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا : هي عاطفة جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم علمه التأويل " ، أي : التفسير وفهم معاني القرآن ، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه . والذين قالوا : هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يئول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران :

الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما : التفسير على أربعة أنحاء : تفسير : لا [ ص: 194 ] يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله . فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تئول إليه حقيقة الأمر .

وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور .

الثاني : أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ولا من لغة العرب . فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل .

التالي السابق


الخدمات العلمية