صفحة جزء
قوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض نهى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحسب ، أي : يظن الذين كفروا معجزين في الأرض ، ومفعول معجزين محذوف ، أي : لا يظنهم معجزين ربهم ، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ; لأنه قادر على كل شيء .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] ، وقوله تعالى : وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 555 ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 21 - 22 ] ، وقوله في " الشورى " : وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 42 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تحسبن الذين كفروا [ 24 \ 57 ] ، قرأه ابن عامر وحمزة : لا يحسبن بالياء المثناة التحتية على الغيبة ، وقرأه باقي السبعة : لا تحسبن بالتاء الفوقية ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بفتح السين ، وباقي السبعة بكسرها .

والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين ، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين ، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين ، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا إشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ; لأن الخطاب بقوله : لا تحسبن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله : الذين كفروا هو المفعول الأول ، وقوله : معجزين هو المفعول الثاني لـ : تحسبن وأما على قراءة : ولا يحسبن بالياء التحتية ، ففي الآية إشكال معروف ، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله الذين كفروا في محل رفع فاعل يحسبن والمفعول الأول محذوف ، تقديره : أنفسهم ، و معجزين مفعول ثان ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، وعزا هذا القول للزجاج ، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، كما لا يخفى ، ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " ، بقوله :

ولا تجز هنا بلا دليل


سقوط مفعولين أو مفعول



ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما ، قوله تعالى : أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ] أي : تزعمونهم شركائي ، وقول الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة


ترى حبهم عارا علي وتحسب



[ ص: 556 ] أي : وتحسب حبهم عارا علي ، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة :

ولقد نزلت فلا تظني غيره


مني بمنزلة المحب المكرم



أي : لا تظني غيره واقعا .

الجواب الثاني : أن فاعل يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مذكور في قوله قبله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي : لا يحسبن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين ، وعلى هذا فـ : الذين كفروا مفعول أول ، و معجزين مفعول ثان ، وعزا هذا القول للفراء ، وأبي علي .

الجواب الثالث : أن المعنى : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان ، وهو كالذي قبله ، إلا أن الفاعل في الأول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني الكافر ، وقال الزمخشري : وقرئ لا يحسبن بالياء ، وفيه أوجه أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان .

والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض ، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، اهـ .

وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ : لا يحسبن بالياء التحتية خطأ أو لحن ، كلام ساقط لا يلتفت إليه; لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه ، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر ، وحمزة ; كما تقدم .

وأظهر الأجوبة عندي : أن معجزين في الأرض هما المفعولان ، فالمفعول الأول معجزين والمفعول الثاني دل عليه قوله : في الأرض أي : لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية