صفحة جزء
قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم الضمير في قوله : عن أمره راجع إلى الرسول ، أو إلى الله والمعنى واحد ; لأن الأمر من الله ، والرسول مبلغ عنه ، والعرب تقول : خالف أمره وخالف عن أمره : وقال بعضهم : يخالفون : مضمن معنى يصدون ، أي : يصدون عن أمره .

وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب ; لأنه - جل وعلا - توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم ، وحذرهم من مخالفة الأمر ، وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] فإن قوله : اركعوا أمر مطلق ، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله : لا يركعون يدل على أن امتثاله واجب ، وكقوله تعالى لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فإنكاره تعالى على إبليس موبخا له بقوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجبا . وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق ، وهو قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] ، وكقوله تعالى عن موسى : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وأمره المذكور مطلق ، وهو قوله : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] ، وكقوله تعالى : [ ص: 559 ] لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص ، ولا يكون عاصيا إلا بترك واجب ، أو ارتكاب محرم ; وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنه يدل على أن أمر الله ، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال ، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب ، كما ترى ، وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] .

واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، بدليل أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد ، فليس للعبد أن يقول عقابك لي ظلم ; لأن صيغة الأمر في قولك : اسقني ماء لم توجب علي الامتثال ، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني ، بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه ، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه ، والفتنة في قوله : أن تصيبهم فتنة قيل : هي القتل ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقيل : الزلازل والأهوال ، وهو مروي عن عطاء ، وقيل : السلطان الجائر ، وهو مروي عن جعفر بن محمد ، قال بعضهم : هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض العلماء : فتنة محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دل استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان :

الأول : أن يراد بها الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] ، وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] ، أي : أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك .

الثاني وهو أشهرها : إطلاق الفتنة على الاختبار ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة الآية [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] .

والثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي " الأنفال " : [ ص: 560 ] ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ، فقوله : حتى لا تكون فتنة أي : حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين ، ويدل على صحته قوله بعده : ويكون الدين لله ; لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شرك ، كما ترى . ويوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ، كما لا يخفى .

والرابع : إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، أي : لم تكن حجتهم ، كما قال به بعض أهل العلم .

والأظهر عندي : أن الفتنة في قوله هنا : أن تصيبهم فتنة أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة .

وأن معناه أن يفتنهم الله ، أي : يزيدهم ضلالا بسبب مخالفتهم عن أمره ، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله - جل وعلا - : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية