صفحة جزء
مسألة .

هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، والآيات التي ذكرناها معها ، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد .

وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين ، لا ثالث لهما .

الأول منهما : اكتساب المال .

والثاني منهما : صرفه في مصارفه ، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج ، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر ، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرا في [ ص: 77 ] أوجه اكتساب المال ، إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه ، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة ، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه ، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه ، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف .

وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين ، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما ، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة ، كالتجارات وغيرها ; كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] وقوله تعالى : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة ; وكقوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] وقد قدمنا في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] أنواع الشركات وأسماءها ، وبينا ما يجوز منها ، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة ، وأوضحنا ما اتفقوا على منعه ، وما اتفقوا على جوازه ، وما اختلفوا فيه ، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة .

وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين ، هما : اكتساب المال ، وصرفه في مصارفه ، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين ، لا بد له من أمرين ضروريين له : الأول منهما : معرفة حكم الله فيه ، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال ، بل أباح بعض الطرق ، وحرم بعضها ; كما قال تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ولم يبح الله جل وعلا صرف المال في كل شيء ، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ; كما قال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة [ 2 \ 261 ] وقال تعالى في الصرف الحرام : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة [ ص: 78 ] الآية [ 8 \ 36 ] فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه ، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام ، والمال المكتسب من وجه حرام ، لا خير فيه البتة ، وقد يصرف المال في وجه حرام ، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه .

الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال ، فقد يعلم الإنسان مثلا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعا ، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال من ذلك الوجه الشرعي ، وكم من متصرف يريد الربح ، فيعود عليه تصرفه بالخسران ، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح . وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح ، وفيه مصلحة ، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور ، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة ، فإن جواز الصرف فيها معلوم ، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة لا يعلمه كل الناس .

وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة : الأول : معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال ، واجتناب الاكتساب به ، إن كان محرما شرعا .

الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض ، وما لا يبيحه .

الثالث : معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال ، واجتناب المحرم منها .

الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف ، واجتناب ما لا يفيد منها ، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلا بمصلحته ، وكان مرضيا لله جل وعلا ، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك ; لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ، ولا بركة ; كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ 2 \ 276 ] وقال تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث الآية [ 5 \ 100 ] .

وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة " البقرة " ، وتكلمنا على أنواع [ ص: 79 ] الشركات وأسمائها ، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] .

ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون كفيلا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية ، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعا ; لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم ، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين ، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئا منها يجوز شرعا ، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية ، أو على غرر ، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا ، فإنك لا تكاد تجد شيئا منها سالما من الغرر ، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات ، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك ، ولأنه لا دليل معه ، بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية