قوله تعالى : 
ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون   . تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : 
ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور   [ 11 \ 5 ] وقوله : 
ألا يسجدوا لله ، كقوله تعالى : 
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون   [ 41 \ 37 ] وقوله تعالى : 
فاسجدوا لله واعبدوا   [ 53 \ 62 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : 
الذي يخرج الخبء ، قال بعض أهل العلم : الخبء في السماوات : المطر ، والخبء في الأرض : النبات ، والمعادن ، والكنوز ، وهذا المعنى ملائم لقوله : 
يخرج الخبء ، وقال بعض أهل العلم : الخبء : السر والغيب ، أي :   
[ ص: 110 ] يعلم ما غاب في السماوات والأرض ; كما يدل عليه قوله بعده : 
ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، وكقوله في هذه السورة الكريمة : 
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين   [ 27 \ 75 ] وقوله : 
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين   [ 10 \ 61 ] كما أوضحناه في سورة " هود " ، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي    : 
ألا يسجدوا لله بتشديد اللام في لفظة ( ألا ) ، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا ، فالفعل المضارع على هذه القراءة ، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر ، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه : الأول : أنه منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي : 
وزين لهم الشيطان أعمالهم ، من أجل 
ألا يسجدوا لله ، أي : من أجل عدم سجودهم لله ، أو 
فصدهم عن السبيل ، لأجل 
ألا يسجدوا لله ، وبالأول قال 
الأخفش    . وبالثاني قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  ، وقال 
اليزيدي  وغيره : هو منصوب على أنه بدل من أعمالهم ، أي : وزين لهم الشيطان أعمالهم ألا يسجدوا ، أي : عدم سجودهم ، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله ، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل ; كما أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : 
وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا   [ 25 \ 30 ] وقال بعضهم : إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من السبيل ، أو على أن العامل فيه 
فهم لا يهتدون ، وعلى هذين الوجهين فلفظة ( لا ) صلة ، فعلى الأول منهما . فالمعنى : 
فصدهم عن السبيل سجودهم لله ، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه هو السجود لله ، ( ولا ) زائدة للتوكيد . وعلى الثاني ، فالمعنى : فهم لا يهتدون ؛ لأن يسجدوا لله ، أي : للسجود له ، ( ولا ) زائدة أيضا للتوكيد ، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل ، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيا ذكرت لفظة ( عدم ) قبل المصدر ، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل ، فقولك مثلا : عجبت من أن لا تقوم ، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول : عجبت من عدم قيامك ، وإذا كان الفعل مثبتا لم تذكر مع المصدر لفظة ( عدم ) ، فلو قلت : عجبت من أن تقوم ، فإنك تقول في سبك مصدره : عجبت من قيامك ; كما لا يخفى . وعليه : فالمصدر   
[ ص: 111 ] المنسبك من قوله : 
ألا يسجدوا يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفظة ( لا ) زائدة ، وقد أشرنا في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : 
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك   [ 7 \ 12 ] إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة ( لا ) لتوكيد الكلام في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في أول سورة " البلد " ، في الكلام على قوله تعالى : 
لا أقسم بهذا البلد   [ 90 \ 1 ] وسنذكر طرفا من كلامنا فيه هنا . 
فقد قلنا فيه : الأول وعليه الجمهور : أن ( لا ) هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده ; كقوله تعالى : 
ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني   [ 20 \ 92 - 93 ] يعني أن تتبعني ، وقوله تعالى : 
ما منعك ألا تسجد ، أي : أن تسجد على أحد القولين . ويدل له قوله تعالى في سورة " ص " : 
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي   [ 38 \ 75 ] وقوله تعالى : 
لئلا يعلم أهل الكتاب   [ 57 \ 29 ] وقوله تعالى : 
فلا وربك لا يؤمنون الآية [ 4 \ 65 ] أي : فوربك ، وقوله تعالى : 
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة   [ 41 \ 34 ] أي : والسيئة ، وقوله تعالى : 
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون   [ 21 \ 95 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : 
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون   [ 6 \ 109 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : 
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال الماضية ; وكقول 
أبي النجم    : 
فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندر 
يعني : أن تسخر ، وقول الآخر : 
وتلحينني في اللهو ألا أحبه     وللهو داع دائب غير غافل 
يعني : أن أحبه ، و ( لا ) زائدة . وقول الآخر : 
أبى جوده لا البخل واستعجلت به     نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله 
يعني : أبى جوده البخل ، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية البخل بالجر ; لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر ، وقول 
امرئ القيس    :   
[ ص: 112 ] فلا وأبيك ابنة العامري      لا يدعي القوم أني أفر 
يعني : وأبيك ، وأنشد 
الفراء  لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر : 
ما كان يرضى رسول الله دينهم     والأطيبان أبو بكر  ولا عمر  
يعني : 
عمر  و ( لا ) صلة ، وأنشد 
الجوهري  لزيادتها قول 
العجاج    : 
في بئر لا حور سرى وما شعر     بإفكه حتى رأى الصبح جشر 
والحور : الهلكة ، يعني : في بئر هلكة و ( لا ) صلة ، قاله 
أبو عبيدة  وغيره . وأنشد 
 nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي  لزيادتها قول 
ساعدة الهذلي    : 
أفعنك لا برق كان وميضه     غاب تسنمه ضرام مثقب 
ويروى : أفمنك وتشيمه ، بدل أفعنك وتسنمه ، يعني : أفعنك برق ، و ( لا ) صلة ، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر : 
تذكرت ليلى  فاعترتني صبابة     وكاد صميم القلب لا يتقطع 
يعني : كاد يتقطع ، وأما استدلال 
أبي عبيدة  لزيادتها بقول 
الشماخ    : 
أعائش  ما لقومك لا أراهم     يضيعون الهجان مع المضيع 
فغلط منه ، لأن لا في بيت 
الشماخ  هذا نافية لا زائدة ، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله ، مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي : لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي ، وما ذكره 
الفراء  من أن لفظة لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية ، على القول بأن لا فيها صلة ، وكبيت 
ساعدة الهذلي  ، وما ذكره 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  من زيادة لا في أول الكلام دون غيره ، فلا دليل عليه ، انتهى محل الغرض من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " . 
وقرأ هذا الحرف 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  وحده من السبعة : 
ألا يسجدوا بتخفيف اللام من قوله : ( ألا ) ، وعلى قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  هذه ، فلفظة ( ألا ) حرف استفتاح ، وتنبيه ويا   
[ ص: 113 ] حرف نداء ، والمنادى محذوف تقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات ، أنك إذا قيل لك : قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  ، أنك تقف في قوله : 
ألا يسجدوا ، ثلاث وقفات ، الأولى : أن تقف على ألا . والثانية : أن تقف على يا . والثالثة : أن تقف على اسجدوا ، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار ، وأما على قراءة الجمهور ، فإنك تقف وقفتين فقط : الأولى : على ( ألا ) ، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا ، والثانية : أنك تقف على يسجدوا . 
واعلم أنه على قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  قد حذف في الخط ألفان ، الأولى : الألف المتصلة بياء النداء ، والثانية : ألف الوصل في قوله : ( اسجدوا ) ، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط ، بأنهما لما سقطتا في اللفظ ، سقطتا في الكتابة ، قالوا : ومثل ذلك في القرآن كثير . 
واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  من أن لفظة ( ألا ) للاستفتاح والتنبيه ، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط ، واسجدوا فعل أمر ، قالوا : وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف ، ومنه قول 
الأخطل    : 
ألا يا اسلمي يا هند  هند  بني بكر      وإن كان حيانا عدى آخر الدهر 
وقول 
 nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة    : 
ألا يا اسلمي يا دار مي  على البلا     ولا زال منهلا بجرعائك القطر 
فقوله في البيتين : ألا يا اسلمي ، أي : يا هذه اسلمي ، وقول الآخر : 
لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد 
وقول 
الشماخ    : 
ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي     وقبل منايا قد حضرن وآجالي 
يعني : ألا يا صحبي اصبحاني ، ونظيره قول الآخر : 
ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر  
ومنه قول الآخر :   
[ ص: 114 ] فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة     فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي 
يعني : ألا يا هذا اسمع ، وأنشد 
 nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه  لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول الشاعر : 
يا لعنة الله والأقوام كلهم     والصالحين على سمعان من جار 
بضم التاء من قوله : لعنة الله ، ثم قال : فيا لغير اللعنة ، يعني أن المراد : يا قوم لعنة الله ، إلى آخره . وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى ، مع ذكر أداته مستشهدا لقراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  المذكورة ، قول الشاعر : 
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم     أم الهنينين من زندلها وارى 
ثم قال : كأنه أراد : يا قوم قاتل الله صبيانا ، وقول الآخر : 
يا من رأى بارقا أكفكفه     بين ذراعي وجبهة الأسد 
ثم قال : كأنه دعا يا قوم يا إخوتي ، فلما أقبلوا عليه قال : من رأى . وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول 
عنترة  في معلقته : 
يا شاة ما قنص لمن حلت له     حرمت علي وليتها لم تحرم 
قالوا : التقدير : يا قوم انظروا شاة ما قنص . 
واعلم أن جماعة من أهل العلم ، قالوا : إن يا على قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  ، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء ، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا : حرف تنبيه كرر للتوكيد ، وممن روي عنه هذا القول : 
أبو الحسن بن عصفور  ، وهذا القول اختاره 
أبو حيان  في " البحر المحيط " ، قال فيه : والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء ، وحذف المنادى ; لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه ، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه ، وهو المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا ، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء ، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة ، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع   
[ ص: 115 ] الحرفين المختلفي اللفظ ، العاملين في قوله : فأصبحن لا يسألنني عن بما به ، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله : ولا للما بهم أبدا دواء . 
وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا ، وليس يا في قوله : يا لعنة الله والأقوام كلهم . 
حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى ، لما ذكرناه . انتهى الغرض من كلام أبي حيان ، وما اختاره له وجه من النظر . 
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومما له وجه من النظر عندي في قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  ، أن يكون قوله : يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع ، بلا ناصب ، ولا جازم ، ولا نون توكيد ، ولا نون وقاية . 
وقد قال بعض أهل العلم : إن حذفها لا لموجب مما ذكر لغة صحيحة . 
قال 
النووي  في " شرح 
مسلم    " ، في الجزء السابع عشر في صفحة 702 ، ما نصه : قوله : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009302يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ، كذا هو في عامة النسخ ، كيف يسمعوا ، وأنى يجيبوا من غير نون ، وهي لغة صحيحة ، وإن كانت قليلة الاستعمال ، وسبق بيانها مرات . ومنها الحديث السابق في " الإيمان " : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009303لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا   " ، انتهى منه . وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة ، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى : 
يسجدوا ، في قراءة 
 nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي  فعلا مضارعا ، ولا شك أن هذا له وجه من النظر ، وقد اقتصرنا في سورة " الحجر " ، على أن حذفها مقصور على السماع ، وذكرنا بعض شواهده ، والعلم عند الله تعالى .