صفحة جزء
الفرع الثاني : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار ، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أو لا ؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم ، ولو كانت معيبة بكل العيوب تمسكا بإطلاق الرقبة في قوله تعالى : فتحرير رقبة ، قال : ظاهره ولو معيبة ; لأن الله لم يقيد الرقبة بشيء .

وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب ، قالوا : يشترط سلامتها من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا ; لأن المقصود [ ص: 216 ] تمليك العبد منافعه ، وتمكينه من التصرف لنفسه ، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا ، فلا يجزئ الأعمى ; لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ، ولا المقعد ، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين ; لأن اليدين آلة البطش ، فلا يمكنه العمل مع فقدهما ، والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما ، والشلل كالقطع في هذا .

قالوا : ولا يجوز المجنون جنونا مطبقا ; لأنه وجد فيه المعنيان : ذهاب منفعة الجنس ، وحصول الضرر بالعمل ، قاله في " المغني " . ثم قال : وبهذا كله قال الشافعي ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، انتهى محل الغرض منه .

وبه تعلم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلامة من مثل العيوب المذكورة .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ، ولا أشلهما ، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى ; لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ، ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة ; لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك . وإن قطعت كل واحدة من يد جاز ; لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين ، وإن كان من غير الإبهام لم يمنع ; لأن منفعتها لا تذهب ، فإنها تصير كالأصابع القصار ، حتى لو كانت أصابعه كلها غير الإبهام قد قطعت من كل واحد منها أنملة لم يمنع ، وإن قطع من الإصبع أنملتان فهو كقطعها ; لأنه يذهب بمنفعتها ، وهذا جميعه مذهب الشافعي ، أي : وأحمد .

وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى الرجلين أو إحدى اليدين ، ولو قطعت رجله ويده جميعا من خلاف أجزأت ; لأن منفعة الجنس باقية ، فأجزأت في الكفارة كالأعور ، فأما إن قطعتا من وفاق ، أي : من جانب واحد لم يجز ; لأن منفعة المشي تذهب ، ولنا أن هذا يؤثر في العمل ، ويضر ضررا بينا ، فوجب أن يمنع إجزاؤها كما لو قطعتا من وفاق . ويخالف العور ، فإنه لا يضر ضررا بينا ، والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس ، فإنه لما ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس . ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا ; لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، إلى أن قال : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا .

وقال أبو بكر : فيه قول آخر : إنه لا يجزئ ; لأنه نقص يمنع التضحية والإجزاء في الهدي ، فأشبه العمى ، والصحيح ما ذكرناه . فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد [ ص: 217 ] المنافع ، والعور لا يمنع ذلك ; ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ، ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ، ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين ، فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما ، والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما .

وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور ، وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ; ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن ، والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ، ويجزئ المقطوع الأذنين . وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي .

وقال مالك وزفر : لا يجزئ ; لأنهما عضوان فيها الدية ، فأشبها اليدين . ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين ، فلم يمنع كنقص السمع ، بخلاف اليدين ، ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ، ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ، والأخرس إذا فهمت إشارته وفهم الإشارة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور .

وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ ; لأن منفعة الجنس ذاهبة ، فأشبه زائل العقل ، وهذا المنصوص عليه عن أحمد ; لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام ، مثل القضاء والشهادة . أكثر الناس لا يفهم إشارته ، فيتضرر في ترك استعماله ، وإن اجتمع الخرس والصمم . فقال القاضي : لا يجزئ ، وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ، ووجه الإجزاء أن الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ، ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ ; لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره .

وأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة ، وإن كان غير مرجو الزوال لم يجز .

وأما نضو الخلق يعني النحيف المهزول خلقة ، فإن كان يتمكن من العمل أجزأ ، وإلا فلا . ويجزئ الأحمق وهو الذي يصنع الأشياء لغير فائدة ، ويرى الخطأ صوابا . وكذلك يجزئ من يخنق في بعض الأحيان ، والخصي والمجبوب ، والرتقاء ، والكبير الذي يقدر على العمل ; لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه ، وتكميل أحكامه ، فيحصل الإجزاء به ، كالسالم من العيوب ، انتهى من " المغني " ، مع حذف يسير لا يضر بالمعنى .

ثم قال صاحب " المغني " : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده ، إذا [ ص: 218 ] قلنا بصحة عتقهم ، وعتق المدبر والخصي وولد الزنا ; لكمال العتق فيهم . ولا يجزئ عتق المغصوب ، لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ، ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره ; لأنه لا تعلم حياته فلا تعلم صحة عتقه ، وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه ; لأنه عتق صحيح .

ولا يجزئ عتق الحمل ; لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ، ولذلك لم تجب فطرته ، ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته . ولا عتق أم الولد ; لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة ، والملك فيها غير كامل ، ولهذا لم يجز بيعها .

وقال طاوس والبتي : يجزئ عتقها ; لأنه عتق صحيح . ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا ، انتهى من كلام صاحب " المغني " . وقد ذكر فيه غالب ما في مذاهب الأئمة الأربعة في المسألة .

ومعلوم أن مذهب مالك رحمه الله : اشتراط الإيمان في رقبة الظهار ، واشتراط سلامتها من العيوب المضرة ، فلا يجوز عنده عتق جنين في بطن أمه ، وإن وضعته عتق من غير إجزاء عن الكفارة .

ولا يجزئ عنده مقطوع اليد الواحدة ، أو الإصبعين ، أو الأصابع ، أو الإبهام ، أو الأذنين ، أو أشل ، أو أجذم ، أو أبرص ، أو أصم ، أو مجنون وإن أفاق أحيانا ، ولا أخرس ، ولا أعمى ، ولا مقعد ، ولا مفلوج ، ولا يابس الشق ، ولا غائب منقطع خبره ، ولا المريض مرضا يشرف به على الموت ، ولا الهرم هرما شديدا ، ولا الأعرج عرجا شديدا ، ولا رقيق مشترى بشرط العتق لما يوضع من ثمنه في مقابلة شرط العتق ، ولا من يعتق عليه بالملك كأبيه ، ولا عبد قال : إن اشتريته فهو حر ، فلو قال : إن اشتريته فهو حر عن ظهاري ، ففيه لهم تأويلان بالإجزاء وعدمه .

ولا يجزئ عنده المدبر ، ولا المكاتب ، ولو أعتق شركا له في عبد ، ثم قوم عليه نصيب شريكه لم يجزه عن ظهاره عنده ; لأن عتق نصيب الشريك وجب عليه بحكم سراية المعتق ، وكذلك لو أعتق نصفه عن ظهاره ، ثم بعد ذلك اشترى نصفه الآخر فأعتقه تكميلا لرقبة الظهار ، لم يجزه على ظاهر المدونة لتبعيض العتق إن كانت معسرا وقت عتق النصف الأول ، ولأن عتق النصف الباقي يلزمه بالحكم ، إن كان موسرا وقت عتق النصف الأول ، [ ص: 219 ] ولو أعتق ثلاث رقاب عن أربع زوجات ظاهر منهن لم يجزه من ذلك شيء ; لأنه لم تتعين رقبة كاملة عن واحدة منهن .

ويجزئ عند المالكية عتق المغصوب والمريض مرضا خفيفا ، والأعرج عرجا خفيفا ، ولا يضر عندهم قطع أنملة واحدة أو أذن واحدة ، ويجزئ عندهم الأعور ، ويكره عندهم الخصي ، ويجوز عندهم عتق المرهون والجاني إن افتديا ، انتهى .

ومعلوم أن أبا حنيفة لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار ، كما تقدم . ولم يجزئ عنده الأعمى ولا مقطوع اليدين معا أو الرجلين معا ، ولا مقطوع إبهامي اليدين ، ولا الأخرس ، ولا المجنون ، ولا أم الولد ، ولا المدبر ، ولا المكاتب إن أدى شيئا من كتابته ، فإن لم يؤد منها شيئا أجزأ عنده ، وكذلك يجزئ عنده قريبه الذي يعتق عليه بالملك إن نوى بشرائه إعتاقه عن الكفارة ، وكذلك لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ، ثم حرر باقيه عنها أجزأه ذلك ، ويجزئ عنده الأصم ، والأعور ، ومقطوع إحدى الرجلين ، وإحدى اليدين من خلاف ، ويجزئ عنده الخصي ، والمجبوب ، ومقطوع الأذنين ، ا هـ .

وقد قدمنا أكثر العيوب المانعة من الإجزاء ، وغير المانعة عند الشافعي في كلام صاحب " المغني " ناقلا عنه ، وكذلك ما يمنع وما لا يمنع عند أحمد ، فاكتفينا بذلك خشية كثرة الإطالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية