وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا تعلم أن 
حكم آية الحجاب عام ، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة ، كما رأيت إيضاحه قريبا . 
ومن الأدلة القرآنية الدالة على الحجاب قوله تعالى : 
والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم   [ 24 \ 60 ]   
[ ص: 248 ] لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا ، أي : لا يطمعن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن ، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة ، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال : 
وأن يستعففن خير لهن ، أي : يستعففن عن وضع الثياب خير لهن ، أي : واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج ، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن . 
وأظهر الأقوال في قوله : 
أن يضعن ثيابهن ، أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب ، التي تكون فوق الخمار والثياب . 
فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : 
وأن يستعففن خير لهن ، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح ، لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب . 
وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام ، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على 
احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب ، علمت أن القرآن دل على الحجاب ، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة ، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - مريض القلب كما ترى . 
واعلم أنه مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب ، قد دلت على ذلك أيضا أحاديث نبوية ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر الجهني  رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009367  " إياكم والدخول على النساء " ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرأيت الحمو ؟ قال : " الحمو الموت "   . أخرج 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  هذا الحديث في كتاب " النكاح " ، في باب : لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ . 
ومسلم  في كتاب " السلام " ، في باب تحريم 
الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعا إلا من وراء   
[ ص: 249 ] حجاب ; لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذره من الدخول عليها ، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرما لزوجته ، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك قال له - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009368الحمو الموت   " ، فسمى - صلى الله عليه وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت ، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير ; لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا ، كما قال الشاعر : 
والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله 
والجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : 
واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين   [ 26 \ 184 ] ، فتحذيره - صلى الله عليه وسلم - هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء ، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : 
فاسألوهن من وراء حجاب عام في جميع النساء ، كما ترى . إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء ، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك ، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده ، كما قدمنا أن 
مسلما  رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فدل على أن كليهما حرام . 
وقال 
ابن حجر  في " فتح الباري " في شرح الحديث المذكور : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009369إياكم والدخول   " ، بالنصب على التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه ; كما قيل : إياك والأسد ، وقوله : " إياكم " ، مفعول لفعل مضمر تقديره : اتقوا . 
وتقدير الكلام : اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء ، والنساء أن يدخلن عليكم . ووقع في رواية 
ابن وهب  ، بلفظ : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009370لا تدخلوا على النساء   " ، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى ، انتهى محل الغرض منه . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  رحمه الله في " صحيحه " ، باب 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن   . وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12263أحمد بن شبيب    : حدثنا أبي عن 
يونس  ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب  ، عن 
عروة  عن 
عائشة    - رضي الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن   [ 24 \ 31 ] ، شققن مروطهن فاختمرن بها   . 
حدثنا 
أبو نعيم  ، حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12398إبراهيم بن نافع  ، عن 
الحسن بن مسلم  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=10941صفية بنت شيبة    :   
[ ص: 250 ] أن 
عائشة    - رضي الله عنها - كانت تقول : لما نزلت هذه الآية 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها ، انتهى من صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    . وقال 
ابن حجر  في " الفتح " ، في شرح هذا الحديث : قوله : فاختمرن ، أي غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع . قال 
الفراء    : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار . انتهى محل الغرض من " فتح الباري " . 
وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن 
معنى قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، يقتضي ستر وجوههن ، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن ، أي : سترن وجوههن بها امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن المقتضي ستر وجوههن ، وبهذا يتحقق المنصف أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى ، وقد أثنت 
عائشة  رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه ، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن ، والله جل وعلا يقول : 
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم   [ 16 \ 44 ] ، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن . وقال 
ابن حجر  في " فتح الباري " : 
 nindex.php?page=showalam&ids=16328ولابن أبي حاتم  من طريق 
عبد الله بن عثمان بن خيثم  ، عن 
صفية  ما يوضح ذلك ، ولفظه : ذكرنا عند 
عائشة  نساء 
قريش  وفضلهن ، فقالت : إن لنساء 
قريش  لفضلا ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء 
الأنصار  أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، ولقد أنزلت سورة " النور " : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " . 
ومعنى معتجرات : مختمرات ، كما جاء موضحا في رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  المذكورة آنفا ، فترى 
عائشة    - رضي الله عنها - مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم ، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله ، كما ترى .   
[ ص: 251 ] فالعجب كل العجب ، ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب ، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله ، ومعنى هذا ثابت في الصحيح ، كما تقدم عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    . وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين ، كما ترى . 
وقال 
ابن كثير  رحمه الله في تفسيره : وقال 
البزار  أيضا : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى  ، حدثني 
 nindex.php?page=showalam&ids=16710عمرو بن عاصم ،  حدثنا 
همام  ، عن 
قتادة  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17167مورق  ، عن 
أبي الأحوص  ، عن 
عبد الله  رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009371إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها   " ، ورواه 
الترمذي  عن 
بندار  ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16710عمرو بن عاصم  به نحوه ، اه منه . 
وقد ذكر هذا الحديث صاحب " مجمع الزوائد " ، وقال : رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني  في " الكبير " ، ورجاله موثقون ، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة ، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة . 
ومما يؤيد ذلك : ما ذكر 
الهيثمي  أيضا في " مجمع الزوائد " ، عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود  قال : 
إنما النساء عورة ، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه ، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال : أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضا أو أشهد جنازة ، أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها ، مثل أن تعبده في بيتها ، ثم قال : رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني  في " الكبير " ، ورجاله ثقات ، اه منه . ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه . 
ومن الأدلة الدالة على ذلك الأحاديث التي قدمناها ، الدالة على أن 
صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد ، كما أوضحناه في سورة " النور " في الكلام على قوله تعالى : 
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية [ 24 \ 36 - 37 ] ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا ، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق . 
فقد ذكرنا الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب ، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية " النور " ، مع تفسير الصحابة لها ، وهي قوله تعالى : 
وليضربن بخمرهن على جيوبهن فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي ، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن   
[ ص: 252 ] الرجال ، وأن 
ستر المرأة وجهها عمل بالقرآن ، كما قالته 
عائشة  رضي الله عنها . 
وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف ، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم ، عما استدل به الذين قالوا بجواز 
إبداء المرأة وجهها ويديها ، بحضرة الأجانب   . 
فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث 
خالد بن دريك  عن 
عائشة  رضي الله عنها : أن 
 nindex.php?page=showalam&ids=64أسماء بنت أبي بكر  دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009372يا أسماء  ، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا   " وأشار إلى وجهه وكفيه ; وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين : 
الأولى : هي كونه مرسلا ; لأن 
خالد بن دريك  لم يسمع من 
عائشة  ، كما قاله 
أبو داود  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=11970وأبو حاتم الرازي  كما قدمناه في سورة " النور " . 
الجهة الثانية : أن في إسناده 
 nindex.php?page=showalam&ids=15991سعيد بن بشير الأزدي  مولاهم ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب ، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب . 
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث 
جابر  الثابت في الصحيح ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ، ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على 
بلال  فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، فقال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009373تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين ، فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير " ، قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال  من أقراطهن وخواتمهن ، اه . هذا لفظ 
مسلم  في " صحيحه " ، قالوا : وقول 
جابر  في هذا الحديث : سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها ، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها ، ولما علم بأنها سفعاء الخدين . وأجيب عن حديث 
جابر  هذا : بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها ، وأقرها على ذلك ، بل غاية ما يفيده الحديث أن 
جابرا  رأى وجهها ، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا ، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد ، فيراه بعض الناس في تلك الحال ، كما قال 
نابغة ذبيان    :  
[ ص: 253 ] سقط النصيف ولم ترد إسقاطه     فتناولته واتقتنا باليد 
فعلى المحتج بحديث 
جابر  المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير 
جابر  ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر 
مسلم  في " صحيحه " ممن رواها غير 
جابر   nindex.php?page=showalam&ids=44أبا سعيد الخدري  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر  ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير 
جابر  أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث 
جابر  المذكور . وقد قال 
النووي  في شرح حديث 
جابر  هذا عند 
مسلم  ، وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء ، هكذا هو في النسخ ( سطة ) بكسر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي : معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار ، قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب 
مسلم  ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة  في مسنده ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي  في سننه . في رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=12508لابن أبي شيبة    : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام 
القاضي  ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال 
الجوهري  وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : توسطتهم ، اه منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث 
جابر  ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن 
جابرا  ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ; لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال 
النووي    : سفعاء الخدين ، أي : فيها تغير وسواد . وقال 
الجوهري  في " صحاحه " : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال 
حميد بن ثور    : 
من الورق سفعاء العلاطين باكرت     فروع أشاء مطلع الشمس أسحما 
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد ، ومن ذلك قول 
متمم بن نويرة التميمي  يبكي أخاه 
مالكا    : 
تقول ابنة العمري ما لك بعدما     أراك خضيبا ناعم البال أروعا 
 [ ص: 254 ] فقلت لها طول الأسى إذ سألتني     ولوعة وجد تترك الخد أسفعا 
ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول 
زهير بن أبي سلمى    : 
أهوى لها أسفع الخدين مطرق     ريش القوادم لم تنصب له الشبك 
والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا . 
ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  الذي قدمناه ، قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009374أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم  nindex.php?page=showalam&ids=69الفضل بن عباس  رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل  رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم  وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل  ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل  ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل  فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا   . . . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها . 
وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين : 
الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها ، كما أوضحناه في رؤية 
جابر  سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها ، ومما يوضح هذا أن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس  رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه ، لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من 
مزدلفة  إلى 
منى  في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه 
الفضل  ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ،   
[ ص: 255 ] واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها . 
فإن قيل : قوله : إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء قوله : فطفق الفضل ينظر إليها ، وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه . 
فالجواب : أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما ، لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها ؛ لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة ، وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط ، كما هو معلوم . ولذلك فسر 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود    : 
ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها   [ 24 \ 31 ] ، بالملاءة فوق الثياب ، كما تقدم . ومما يوضح أن 
الحسن  يعرف من تحت الثياب قول الشاعر : 
طافت أمامة بالركبان آونة     يا حسنها من قوام ما ومنتقبا 
فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا . 
الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير 
 nindex.php?page=showalam&ids=69الفضل بن عباس  رضي الله عنهما ، 
والفضل  منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور . 
فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة ; لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال . 
فالجواب : أن 
الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء ، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة ، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر 
الفضل  إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر 
الفضل  عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك   
[ ص: 256 ] الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم . 
وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي ، ألم تسمع بعضهم يقول : 
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة     ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم 
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ، ولقد صدق من قال : 
وما عجب أن النساء ترجلت     ولكن تأنيث الرجال عجاب