صفحة جزء
قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . الأغلال : جمع غل وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق . والأذقان : جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين . والمقمح بصيغة اسم المفعول ، وهو الرافع رأسه . والسد بالفتح والضم : هو الحاجز الذي يسد طريق الوصول إلى ما وراءه .

وقوله : فأغشيناهم ، أي : جعلنا على أبصارهم الغشاوة ، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار ، ومنه قوله تعالى : وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص :


هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها



والمراد بالآية الكريمة : أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، صرفهم الله عن الإيمان صرفا عظيما مانعا من وصوله إليهم ; لأن من جعل في عنقه غل ، وصار الغل إلى ذقنه ، حتى صار رأسه مرفوعا لا يقدر أن يطأطئه ، وجعل أمامه سدا ، وخلفه سدا ، وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف ، ولا في جلب نفع لنفسه ، ولا في دفع ضر عنها ، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جل وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] ، وقوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، [ ص: 289 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون [ 16 \ 108 ] ، وقوله تعالى : وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب ، وكذلك الأغلال في الأعناق ، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم ، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل ، والتمادي على الكفر ، فعاقبهم الله على ذلك ، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ، والغشاوة على الأبصار ; لأن من شؤم السيئات أن الله جل وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشر ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقا .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، فالباء سببية . وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ; وكقوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل ، أي : فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه .

وقد دلت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجر صاحبه إلى التمادي في السيئات ، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير ، وهو كذلك ; كما قال تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله [ ص: 290 ] تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ 64 \ 11 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم أن قول من قال من أهل العلم : إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذبون بها في الآخرة ; كقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 71 - 72 ] ، خلاف التحقيق ، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم ، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا ; كما أوضحنا . وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم : سدا ، بالفتح في الموضعين ، وقرأه الباقون بضم السين ، ومعناهما واحد على الصواب ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية