قوله تعالى : 
ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله   . قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : 
إنا جعلناك خليفة في الأرض ، قد بينا الحكم الذي دل عليه ، في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى 
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية [ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة 
فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قد أمر نبيه 
داود  فيه ، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى ، وأن اتباع الهوى ، علة للضلال عن سبيل الله ، لأن الفاء في قوله 
فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية . 
وقد تقرر في الأصول ، في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد ، وسرق فقطعت يده ، أو لعلة السهو في الأول ، ولعلة السرقة في الثاني ، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ، فأضله ربنا عن سبيل الله ، في قوله تعالى بعده يليه : 
إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب   [ 38 \ 26 ] .  
[ ص: 340 ] ومعلوم أن نبي الله 
داود  لا يحكم بغير الحق ، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، ولكن الله تعالى ، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ، وينهاهم ليشرع لأممهم . 
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ، بمثل ما أمر به 
داود  ، ونهاه أيضا عن مثل ذلك ، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : 
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط   [ 15 \ 42 ] . وقوله تعالى : 
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك   [ 15 \ 49 ] وكقوله تعالى : 
ولا تطع الكافرين والمنافقين   [ 33 \ 48 ] وقوله تعالى : 
ولا تطع منهم آثما أو كفورا   [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : 
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] . 
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : 
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا   [ 17 \ 22 ] . 
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى : 
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما الآية [ 17 \ 23 ] ، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ، وأن أمه ماتت وهو صغير ، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى : 
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان . 
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله 
فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الآية ، إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب . إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذكرنا في ذلك رجز 
سهل بن مالك الفزاري  الذي خاطب به امرأة ، وهو يقصد أخرى وهي أخت 
حارثة بن لأم الطائي  وهو قوله : 
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره     أصبح يهوى حرة معطاره 
إياك أعني واسمعي يا جاره 
وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ، وقول بعض أهل العلم : إن الخطاب في   
[ ص: 341 ] قوله : 
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية ، هو الخطاب بصيغة المفرد ، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه . كقول 
طرفة بن العبد  في معلقته : 
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا     ويأتيك بالأخبار من لم تزود 
أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ، وعلى هذا فلا دليل في الآية ، غير صحيح ، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه فالاستدلال بالآية ، استدلال قرآني صحيح ، والقرينة القرآنية المذكورة ، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي أولها : 
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر الآية . ما هو صريح ، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم كل من يصح منه الخطاب ، وذلك في قوله تعالى : 
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا   [ 17 \ 39 ] .