صفحة جزء
قوله - تعالى - : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام .

الظاهر أن معنى قوله هنا ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط ; لأنه - تعالى - قال : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

ثم قال : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة ، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما - ستة أيام .

وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال ; لأن الله - تعالى - صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، كقوله في " الفرقان " : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . وقوله - تعالى - في السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [ 32 \ 4 ] . وقوله - تعالى - في " ق " : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ 50 \ 38 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 13 ] [ 7 \ 54 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

فلو لم يفسر قوله - تعالى - : في أربعة أيام بأن معناه في تتمة أربعة أيام - لكان المعنى أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام; لأن قوله - تعالى - : في أربعة أيام إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله - تعالى - : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] - لكان المجموع ثمانية أيام .

وذلك لم يقل به أحد من المسلمين .

والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام ، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا ، وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة وجعل فيها رواسي من فوقها قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] ، وقوله - تعالى - : وبارك فيها أي أكثر فيها البركات ، والبركة الخير ، وقوله - تعالى - وقدر فيها أقواتها .

التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد .

والأقوات جمع قوت ، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن آية " فصلت " هذه ، أعني قوله - تعالى - : وقدر فيها أقواتها يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كقوله هنا : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم رتب على ذلك بـ ( ثم ) قوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض ، كقوله - تعالى - في " النازعات " : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 \ 27 - 30 ] .

فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه : قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 \ 29 ] ، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، بدليل لفظة ( ثم ) التي هي للترتيب والانفصال .

وكذلك آية " حم السجدة " تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء ; لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ; لأنه قال فيها أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها .

اعلم أولا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " فأجاب بأن الله - تعالى - خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك .

فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء .

ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها ماءها ومرعاها [ 79 \ 31 ] ، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه .

وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .

وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ; لأنه قال فيها هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .

وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم .

وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن .

[ ص: 15 ] الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء - الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل ، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا . ومنه قول زهير :


ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري



والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه - تعالى - نص على ذلك في سورة " فصلت " ; حيث قال : وقدر فيها أقواتها ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا .

والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة الآية [ 7 \ 11 ] ، فقوله : خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .

وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها أي مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى مع .

ونظيره قوله - تعالى - : عتل بعد ذلك زنيم وعليه ; فلا إشكال في الآية .

ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة - وبها قرأ مجاهد - : ( والأرض مع ذلك دحاها ) .

وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة ; لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق .

منها : أن ( ثم ) بمعنى الواو .

ومنها : أنها للترتيب الذكري ، كقوله - تعالى - : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية