صفحة جزء
قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد - ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " آل عمران " : ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا [ 3 \ 182 ] . وقوله في " الأنفال " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون [ 8 \ 51 - 52 ] . وقوله في " الحج " : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله الآية [ 22 \ 10 - 11 ] . وقوله في سورة " ق " : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 29 ] .

وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن لفظة ( ظلام ) فيها صيغة مبالغة ، ومعلوم [ ص: 32 ] أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله .

فقولك مثلا : زيد ليس بقتال للرجال - لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم ، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال .

ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة - هو نفي الظلم من أصله .

والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه : الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله .

ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل ، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة ، كقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ 21 \ 47 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " و " الأنبياء " .

الوجه الثاني : أن الله - جل وعلا - نفى ظلمه للعبيد ، والعبيد في غاية الكثرة ، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته ، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم ، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ، ولو قليلا ، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة ، كما ترى .

وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة ، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد ، الذين هم في غاية الكثرة ، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا ، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة ، وفي الحديث : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي " الحديث .

الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه - تعالى - بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم - لكان معذبهم به ظلاما بليغ [ ص: 33 ] الظلم متفاقمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة " الأنفال " .

الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله : وما ربك بظلام للعبيد نفي نسبة الظلم إليه ; لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغني عن ياء النسب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل



ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظلام وفعل كفرح - كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة ، فيستغنى بها عن ياء النسب ، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاس



فالمراد بقوله : الطاعم الكاسي - النسبة ، أي ذو طعام وكسوة . وقول الآخر - وهو من شواهد سيبويه - :

وغررتني وزعمت أنك     لابن في الصيف تامر



أي ذو لبن وذو تمر . وقول نابغة ذبيان :

كليني لهم يا أميمة ناصب     وليل أقاسيه بطيء الكواكب



فقوله : " ناصب " ، أي ذو نصب . ومثاله في فعال قول امرئ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به     وليس بذي سيف وليس بنبال



فقوله : وليس بنبال ، أي ليس بذي نبل ، ويدل عليه قوله قبله : وليس بذي رمح ، وليس بذي سيف .

وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف - يعني ابن مالك - : وعلى هذا حمل المحققون قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد أي بذي ظلم . اهـ .

[ ص: 34 ] وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين ، ومثاله في فعل قول الراجز - وهو من شواهد سيبويه - :

ليس بليلي ولكني نهر     لا أدلج الليل ولكن أبتكر



فقوله : نهر بمعنى نهاري ، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية ، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، والعلم عند الله - تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية