قوله - تعالى - : 
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها   . 
التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى 
عيسى  لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . 
ومعنى قوله : 
لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول 
عيسى  في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها . 
وإطلاق علم الساعة على نفس 
عيسى    - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف . 
أحدهما : أن نزول 
عيسى  المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب . 
وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب . 
ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : 
وينزل لكم من السماء رزقا   [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب . 
ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .  
[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا 
وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : 
وأشهدوا ذوي عدل منكم   [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا 
أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : 
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته   [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن 
بعيسى  قبل موت 
عيسى  ، وذلك صريح في أن 
عيسى  حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب . 
ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض . 
فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي . 
فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى 
عيسى ،  يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض . 
والقول الآخر بخلاف ذلك . 
وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : 
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : 
وما قتلوه ، أي 
عيسى  ، 
وما صلبوه أي 
عيسى  ، 
ولكن شبه لهم أي 
عيسى  ، 
وإن الذين اختلفوا فيه أي 
عيسى  ، 
لفي شك منه أي 
عيسى  ، 
ما لهم به من علم أي 
عيسى  ، 
وما قتلوه يقينا أي 
عيسى  ، 
بل رفعه الله  [ ص: 130 ] أي 
عيسى  ، 
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به   [ 4 \ 159 ] أي 
عيسى  ، 
قبل موته أي 
عيسى  ، 
ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا   [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي 
عيسى    - عليهم شهيدا . 
فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى 
عيسى    . 
الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : 
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله   [ 4 \ 157 ] . 
وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر . 
ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير . 
الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن 
عيسى  حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر . 
قال 
ابن كثير  في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ . 
وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك . 
وقال 
ابن كثير  في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه : 
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر 
بنزول عيسى    - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه . 
وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .  
[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة . 
الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى 
عيسى  ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص . 
وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص . 
ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة . 
وما يذكر عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان 
بعيسى ،  وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى . 
وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : 
قبل موته راجع إلى 
عيسى  ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : 
وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا . 
فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن 
عيسى  قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال 
اليهود  والنصارى  ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : 
إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي   [ 3 \ 55 ] . وقوله : 
فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم   [ 5 \ 117 ] . 
فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن 
عيسى  قد توفي فعلا .  
[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : 
إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص . 
فمعنى : 
إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك . 
ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها . 
وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل . 
وإلى 
تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله : 
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي 
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب 
المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع . 
وهذا القول مذهب 
أبي حنيفة    - رحمه الله - . 
المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك . 
وهذا اختيار 
ابن السبكي  ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله : 
ومذهب النعمان  عكس ما مضى     والقول بالإجمال فيه مرتضى 
 [ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : 
إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه . 
وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت . 
ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن 
عيسى  قد توفي فعلا . 
وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت 
عيسى  فعلا ، أعني قوله - تعالى - : 
إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : 
متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى . 
وأما عطفه ( 
ورافعك إلي   ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك . 
وقد ادعى 
 nindex.php?page=showalam&ids=14551السيرافي  والسهيلي  إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله 
قطرب   nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء  وثعلب  وأبو عمرو الزاهد  وهشام   nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي  من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه . 
وقد أنكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=14551السيرافي  ثبوت هذا القول عن 
الفراء  وقال : لم أجده في كتابه . 
وقال 
ولي الدين    : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي    . 
حكاه عنه صاحب الضياء اللامع . 
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007423أبدأ بما بدأ الله به   " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .  
[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله 
الفهري  كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع . 
وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما . 
فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : 
إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم . 
وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت 
محمدا  وأجبت عنه 
على رواية الواو . 
وقد يراد بها المعية ، كقوله : 
فأنجيناه وأصحاب السفينة   [ 29 \ 15 ] . وقوله : 
وجمع الشمس والقمر   [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل . 
الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة . 
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : 
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار   [ 6 \ 60 ] ، وقوله : 
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها   [ 39 \ 42 ] ، وعزى 
ابن كثير  هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين . 
الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير . 
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب . 
وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت 
عيسى  فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم :   
[ ص: 135 ] أولها : أن 
متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه . 
الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث . 
الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي . 
فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " . 
وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه . 
أما قوله - تعالى - : 
فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن 
عيسى  مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن 
عيسى  يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى . 
والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت . 
وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : 
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : 
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا   [ 19 \ 31 ] . 
أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر . 
وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه . 
وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن 
عيسى  قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن 
اليهود  قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب   
[ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : 
وما قتلوه وما صلبوه   [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : 
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه   [ 4 \ 157 - 158 ] . 
وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى . 
وقد بين الله - جل وعلا - مستند 
اليهود  في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه 
عيسى    . 
فرآه 
اليهود  لما أجمعوا على قتل 
عيسى  فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه 
عيسى    ; فقتلوه . 
فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه . 
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر 
عيسى  لم يكن عند 
اليهود  ولا 
النصارى  ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : 
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه   [ 4 \ 157 - 158 ] . 
والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن 
عيسى  حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه 
بعيسى  هو 
عيسى    . 
وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا . 
وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا . 
أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .  
[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل . 
وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي . 
وأما على القول 
بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية . 
والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا . 
الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا . 
وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية . 
واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
أجمع إن حقيقة تمات     على التقدم له الإثبات 
فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها . 
ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها . 
والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة . 
أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : 
إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى . 
ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .  
[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " . 
فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن 
عيسى  لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : 
وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله . 
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا . 
وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : 
فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه . 
وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : 
وأن الساعة آتية لا ريب فيها   [ 22 \ 7 ] . وقوله : 
وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير   [ 42 \ 7 ] . وقوله : 
ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه   [ 6 \ 12 ] . وقوله : 
فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه   [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .