صفحة جزء
قوله - تعالى - : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها .

التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومعنى قوله : لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها .

وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف .

أحدهما : أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .

وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب .

ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .

ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .

[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .

ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .

فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .

فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى ، يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .

والقول الآخر بخلاف ذلك .

وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : وما قتلوه ، أي عيسى ، وما صلبوه أي عيسى ، ولكن شبه لهم أي عيسى ، وإن الذين اختلفوا فيه أي عيسى ، لفي شك منه أي عيسى ، ما لهم به من علم أي عيسى ، وما قتلوه يقينا أي عيسى ، بل رفعه الله [ ص: 130 ] أي عيسى ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به [ 4 \ 159 ] أي عيسى ، قبل موته أي عيسى ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي عيسى - عليهم شهيدا .

فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى عيسى .

الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ] .

وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .

ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير .

الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ .

وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك .

وقال ابن كثير في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه :

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه .

وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .

[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .

الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص .

وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .

ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .

وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى ، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى .

وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا .

فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ 3 \ 55 ] . وقوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ 5 \ 117 ] .

فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا .

[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص .

فمعنى : إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك .

ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .

وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .

وإلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله :

واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي

فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .

وهذا القول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك .

وهذا اختيار ابن السبكي ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله :

ومذهب النعمان عكس ما مضى     والقول بالإجمال فيه مرتضى



[ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .

وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت .

ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت عيسى فعلا ، أعني قوله - تعالى - : إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى .

وأما عطفه ( ورافعك إلي ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .

وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .

وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .

وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .

حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .

[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .

وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما .

فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم .

وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه

على رواية الواو .

وقد يراد بها المعية ، كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] . وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة .

وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين .

الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير .

وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .

وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت عيسى فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم : [ ص: 135 ] أولها : أن متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .

الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث .

الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .

فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه .

أما قوله - تعالى - : فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن عيسى مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .

والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت .

وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] .

أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر .

وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب [ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : وما قتلوه وما صلبوه [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى .

وقد بين الله - جل وعلا - مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى .

فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى ; فقتلوه .

فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .

فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن عيسى حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .

وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا .

وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا .

أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .

[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل .

وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .

وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .

والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا .

الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا .

وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية .

واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :

أجمع إن حقيقة تمات     على التقدم له الإثبات



فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها .

ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .

والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة .

أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .

ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .

[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن عيسى لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها [ 22 \ 7 ] . وقوله : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] . وقوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 6 \ 12 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

التالي السابق


الخدمات العلمية