صفحة جزء
قوله - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .

قوله - تعالى - : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله ، وهو بمعنى فعل الأمر ، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع : وهي فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] .

واسم فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .

والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله - تعالى - : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] .

والمصدر النائب عن فعله ، كقوله - تعالى - : فضرب الرقاب ، أي فاضربوا رقابهم ، وقوله - تعالى - : حتى إذا أثخنتموهم ، أي أوجعتم فيهم قتلا .

[ ص: 248 ] فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض .

وقوله : فشدوا الوثاق ، أي فأسروهم ، والوثاق - بالفتح والكسر - اسم لما يؤسر به الأسير من قيد ونحوه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون ، ثم بعد ذلك يأسرونهم - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 68 ] . وقد أمر بقتلهم في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] . وقوله - تعالى - : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] . وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم الآية [ 8 \ 57 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون عليهم منا ، أو تفادونهم فداء .

ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله ، كما قال في الخلاصة :

وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا



ومنه قول الشاعر :

لأجهدن فإما درء واقعة تخشى     وإما بلوغ السؤل والأمل



وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج .

وذكر ابن جرير عن أبي بكر - رضي الله عنه - ما يؤيده .

ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء ; لأن الآية منسوخة عنده ، بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق .

ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه .

وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة ، وإن جميع الآيات المذكورة [ ص: 249 ] محكمة ، فالإمام مخير ، وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق .

قالوا : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى .

ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق ، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات ، والمجوز قائم في مقام المنع ، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة ، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم ، كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ محل الغرض منه .

ومعلوم أن بني ناجية من العرب .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق .

ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد ، والله - تبارك وتعالى - في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات ، في توكيد ثبوت ملك الرقيق ، وهي ملك اليمين ; لأن ما ملكته يمين الإنسان فهو مملوك له تماما ، وتحت تصرفه تماما ، كقوله - تعالى - : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] . وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في سورة " قد أفلح المؤمنون " [ 23 \ 5 - 6 ] . و " سأل سائل " [ 70 \ 29 - 30 ] . وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم الآية [ 4 \ 24 ] . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الآية [ 24 \ 33 ] . وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] . وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] . وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] . وقوله : [ ص: 250 ] أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] . وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 16 \ 71 ] . وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] . وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] . فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق ، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها ، وهي معلومة ، فلا ينكر الرق في الإسلام إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله .

وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين ، أو أبناء أرقاء مملوكين .

فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك .

وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل ، فأعتقته .

ومثل هذا أكثر من أن يحصى ، كما هو معلوم .

واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين لنفي الرق في الإسلام من أن آية " القتال " هذه دلت على نفي الرق من أصله ; لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما ، وهما المن والفداء فقط - فهو استدلال ساقط من وجهين : أحدهما : أن فيه استدلالا بالآية ، على شيء لم يدخل فيها ، ولم تتناوله أصلا ، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى .

وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى إلى من وفداء ، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار ; لأن قوله : فضرب الرقاب ، وقوله : حتى إذا أثخنتموهم - صريح في ذلك كما ترى .

وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله : فشدوا الوثاق .

فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة .

ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 251 ] وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان .

ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية ، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين ، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا في حال كونهم مقاتلين ، ولو قصره على هؤلاء ، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى .

الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حتى تضع الحرب أوزارها أي : إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم حتى إذا أثخنتموهم قتلا فأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها أي حتى تنتهي الحرب .

وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح ، والعرب تسمي السلاح وزرا ، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل ، ومنه قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا وفي معنى أوزار الحرب أقوال أخر معروفة تركناها ، لأن هذا أظهرها عندنا . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية