صفحة جزء
التنبيه الرابع

اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .

وإيضاح ذلك : أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال ; لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد ; لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان .

ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق ، فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط .

ولا اجتهاد ، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة - سالم من المعارض .

[ ص: 352 ] والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم .

وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه ، وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .

وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .

وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . ا هـ .

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع .

فقال أبو داود : سمعته يقول : الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي اتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي ، والآيات الدالة على تسميته اتباعا كثيرة جدا ; كقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .

وقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] .

وقوله تعالى : قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] .

وقوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .

وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] .

[ ص: 353 ] وقوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] .

وقوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

فالعمل بالوحي ، هو الاتباع كما دلت عليه الآيات .

ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .

فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن مواضع الاتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد ، فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة ; لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى .

وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد ، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد .

فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .

والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه ، وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .

ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد ، فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .

التالي السابق


الخدمات العلمية