صفحة جزء
قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . [ ص: 389 ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين .

وقرأ حمزة وشعبة " إلى السلم " بكسر السين .

وقوله تعالى : فلا تهنوا أي لا تضعفوا وتذلوا ، ومنه قوله تعالى : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [ 3 \ 146 ] .

وقوله تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ 8 \ 18 ] ، أي مضعف كيدهم ، وقول زهير بن أبي سلمى :

وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت فأصبح الحبل منها واهنا خلقا

وقوله تعالى : وأنتم الأعلون جملة حالية ، أي : فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم أي تبدءوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي والحال أنكم أنتم الأعلون ، أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم ، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون .

وهذا التفسير في قوله : وأنتم الأعلون هو الصواب .

وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده والله معكم لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب ، فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدؤهم بطلب الصلح والمهادنة .

وكقوله تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] .

ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ 4 \ 104 ] ; لأن قوله تعالى : وترجون من الله ما لا يرجون من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب .

[ ص: 390 ] وذلك كقوله هنا : وأنتم الأعلون وقوله : والله معكم أي بالنصر والإعانة والثواب .

واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى ، بل هما محكمتان ، وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى .

فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم إنما هو عن الابتداء بطلب السلم .

والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها ، كما هو صريح قوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله الآية [ 8 \ 61 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله معكم قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله .

وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد ، أي : وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة ، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :

السلم تأخذ منها ما رضيت به     والحرب تكفيك من أنفاسها جرع

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئا من ثواب الأعمال جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا [ 49 \ 14 ] ، أي لا ينقصكم من ثوابها شيئا .

وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .

[ ص: 391 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولن يتركم أصله من الوتر ، وهو الفرد .

فأصل قوله : " لن يتركم " لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها .

التالي السابق


الخدمات العلمية