صفحة جزء
قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .

قوله إذ : منصوب بقوله : أقرب ، أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه ، والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال ، لأنه عالم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة ، كما أوضحه بقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى ، والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره : إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه .

قال الزمخشري : والتلقي التلقن بالحفظ والكتابة ا هـ منه ، والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه ، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله .

[ ص: 427 ] والقعيد : قال بعضهم : معناه القاعد ، والأظهر أن معناه المقاعد ، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل ، كالجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المآكل ، والنديم بمعنى المنادم ، وقال بعضهم : القعيد هنا هو الملازم ، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد ، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي :

قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وأنشد له سيبويه في كتابه قول عمرو بن أحمر الباهلي :


رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني

وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :


نحن بما عندنا وأنت بما     عندك راض والرأي مختلف

وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :


فمن يك أمسى بالمدينة رحله     فإني وقيار بها لغريب

فقول ابن أحمر : كنت منه ووالدي بريئا أي كنت بريئا منه وكان والدي بريئا منه .

وقول ابن الخطيم : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض : أي نحن راضون وأنت راض .

وقول ضابئ بن الحارث : فإني وقيار بها لغريب : يعني : إني لغريب وقيار غريب ، وهذا أسلوب عربي معروف ، ودعوى أن قوله في الآية : قعيد هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه كما ترى ، لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول ، ولا دليل عليه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يلفظ من قول ، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه ، أي إلا والحال أن عنده رقيبا ، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء . عتيد : أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة [ ص: 428 ] يكتبون أعماله ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 - 29 ]

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ]

وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] ، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي هو عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات ، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمهله ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر ؟ وبعضهم يقول : يمهله سبع ساعات . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية