صفحة جزء
[ ص: 434 ] بسم الله الرحمن الرحيم .

سورة الذاريات .

قوله تعالى : والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع .

أكثر أهل العلم ، على أن المراد بالذاريات الرياح ، وهو الحق إن شاء الله ، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح .

ومنه قوله تعالى : فأصبح هشيما تذروه الرياح [ 18 \ 45 ] ، ومعنى تذروه : ترفعه وتفرقه ، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما ، ومنه قول ذي الرمة :


ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا

ولا يخفى سقوط قول من قال : إن الذاريات النساء .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فالحاملات وقرا أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقرا : السحاب ، أي المزن تحمل وقرا ثقلا من الماء .

ويدل لهذا القول تصريح الله - جل وعلا - بوصف السحاب بالثقال ، وهو جمع ثقيلة ، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى : وينشئ السحاب الثقال [ 13 \ 12 ] ، وهو جمع سحابة ثقيلة ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت [ 7 \ 57 ] .

وقال بعضهم : المراد بالحاملات وقرا : السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم ، ولو قال قائل : إن " الحاملات وقرا " الرياح أيضا كان وجهه ظاهرا .

ودلالة بعض الآيات عليه واضحة ; لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء ، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله ، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح ، وذلك في قوله [ ص: 435 ] تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت [ 7 \ 57 ] .

فقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ، أي حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا ، فالإقلال الحمل ، وهو مسند إلى الريح . ودلالة هذا على أن الحاملات وقرا هي الرياح - ظاهرة كما ترى ، ويصح شمول الآية لجميع ذلك .

وقد قدمنا مرارا أنه هو الأجود في مثل ذلك ، وبينا كلام أهل الأصول فيه ، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه في أول سورة النور وغيرها .

والقول بأن الحاملات وقرا : هي حوامل الأجنة من الإناث - ظاهر السقوط ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فالجاريات يسرا أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسرا : السفن تجري في البحر يسرا ، أي : جريا ذا يسر أي سهولة .

والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مرارا : أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر ، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى : ومن آياته الجواري في البحر [ 42 \ 32 ] ، وقوله : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] ، وقوله تعالى : والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] ، وقوله تعالى : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره [ 45 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقيل : الجاريات الرياح ، وقيل غير ذلك .

وقوله تعالى : فالمقسمات أمرا : هي الملائكة يرسلها الله في شئون وأمور مختلفة ، ولذا عبر عنها بالمقسمات ، ويدل لهذا قوله تعالى : فالمدبرات أمرا [ 79 \ 5 ] ، فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح ، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال ، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح ، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم ، كما وقع لقوم صالح .

والتحقيق أن قوله : " أمرا " مفعول به للوصف الذي هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع .

وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم ، وفي كلام العرب مع تنكير المفرد كما [ ص: 436 ] هنا ، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله : إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع ، والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء .

وقوله : إنما توعدون " ما " فيه موصولة ، والعائد إلى الصلة محذوف ، والوصف بمعنى المصدر ، أي : إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه .

وقال بعض العلماء : " ما " مصدرية ، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق .

وقال بعضهم : إن صيغة اسم الفاعل في " لصادق " بمعنى اسم المفعول ، أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به ، ونظير ذلك قوله تعالى : في عيشة راضية [ 69 \ 21 ] ، أي مرضية . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : إن الله لا يخلف الميعاد [ 3 \ 9 ] ، وقوله : إن ما توعدون لآت [ 6 \ 134 ] ، وقوله تعالى : ليس لوقعتها كاذبة [ 56 \ 3 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

والمراد بالدين هنا الجزاء ، أي وإن الجزاء يوم القيامة لواقع لا محالة كما قال تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق [ 24 \ 25 ] ، أي جزاءهم بالعدل والإنصاف ، وكقوله تعالى : وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 40 - 41 ] .

وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء ، وبين أن ذلك ظن الكفار ، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار ، قال تعالى منكرا على من ظن عدم البعث والجزاء ، ومنزها نفسه عن أنه خلقهم عبثا لا لبعث وجزاء : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

وقال تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، في قوله في آية " ص " هذه : باطلا أي عبثا لا لبعث وجزاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية