صفحة جزء
تنبيه :

اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما [ ص: 447 ] قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافا ، والواقع خلاف ذلك ; لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضا ، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء ، وأنه محيط بكل شيء علما ، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .

وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده ، كقوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] ، ولما قال : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده : الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] .

والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق - كثير جدا في القرآن ، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا الآية [ 25 \ 2 - 3 ] ، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .

وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس ، وذلك في قوله : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .

وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط الآية [ 10 \ 4 ] ، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافا مع أنها لا اختلاف بينها ، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده ، فقوله : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير [ 65 \ 12 ] ، [ ص: 448 ] وقوله : اعبدوا ربكم الذي خلقكم [ 2 \ 21 ] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله ، لأن من عرف الله أطاعه ووحده .

وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، فالتكليف بعد العلم ، والجزاء بعد التكليف ، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف ، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم ، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق ، ودل بعضها على أنها الابتلاء ، ودل بعضها على أنها الجزاء ، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه ، وبعضه مرتب على بعض .

وقد بينا معنى إلا ليعبدون في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] ، وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : ولذلك خلقهم أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم ، وفي قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [ 7 \ 179 ] إرادة كونية قدرية ، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : إلا ليعبدون ، إرادة دينية شرعية .

وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد ، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم ، وقال تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، : وقال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .

والحاصل : أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك ، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية ، ثم إن الله - جل وعلا - يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة ، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس . وقوله : ولذلك خلقهم ، وبين قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية ، وهي ملازمة للأمر والرضا ، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما ، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا ، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، [ ص: 449 ] فقوله : إلا ليطاع أي : فيما جاء به من عندنا ، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعا ودينا ، وقوله : بإذن الله يدل على أنه لا يقع من ذلك إلا ما أراده الله كونا وقدرا ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل ميسر لما خلق له " ، والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية