صفحة جزء
قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .

وقوله : ثلة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير هم ثلة ، والثلة الجماعة من الناس ، [ ص: 515 ] وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل ، وهو الكسر .

وقال الزمخشري : والثلة من الثل ، وهو الكسر ، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح ، كأنها جماعة كسرت من الناس ، وقطعت منهم . ا هـ . منه .

واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة ، ومنه قول الشاعر :


فجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد

لأن قوله : تيار من السيل : يدل على كثرة هذا الجيش المعبر عنه بالثلة .

وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين ، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا ، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 39 - 40 ] ، فقال بعض أهل العلم : كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة ، وإن المراد بالأولين منهم الصحابة .

وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله - صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " الحديث ، والذين قالوا : هم كلهم من هذه الأمة ، قالوا : إنما المراد بالقليل وثلة من الآخرين وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة .

وقال بعض العلماء : المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة ، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة .

قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية ، والآخرين فيهما من هذه الأمة ، وأن قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في السابقين خاصة ، وأن قوله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين في أصحاب اليمين خاصة .

وإنما قلنا : إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة ، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم ، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين ، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات .

أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة ، لأن قوله : إذا وقعت الواقعة إلى قوله : فكانت هباء منبثا لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة ، وأن [ ص: 516 ] الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء .

فدل ذلك على أن قوله : وكنتم أزواجا ثلاثة [ 56 \ 7 ] عام في جميع أهل المحشر ، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة ، ومنهم من هو من هذه الأمة .

وعلى هذا فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة ، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة ، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله : وقليل من الآخرين وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة وثلة من الآخرين .

ولا غرابة في هذا ، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة ، وفيها أنبياء كثيرة ورسل ، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها .

أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم ، لأن الثلة تتناول العدد الكثير ، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر ، مع أنهما كليهما كثير .

ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير - لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة .

فأما كون قوله : وقليل من الآخرين دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين ، فلأن الله قال : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] ، ثم قال تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين المقربين : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .

وأما كون قوله : وثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين ، فلأن الله تعالى قال : فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 36 - 40 ] ، والمعنى هم - أي أصحاب اليمين - ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، وهذا واضح كما ترى .

التالي السابق


الخدمات العلمية