صفحة جزء
قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون .

تضمنت هذه الآية الكريمة برهانا قاطعا ثانيا على البعث وامتنانا عظيما على الخلق بخلق أرزاقهم لهم ، فقوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، يعني أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها أي تحريكها وتسويتها أأنتم تزرعونه أي تجعلونه زرعا ، ثم تنمونه إلى أن يصير مدركا صالحا للأكل أم نحن الزارعون له ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال : أنت يا ربنا هو الزارع المنبت ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك فيقال لهم : كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل من هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم . وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث - جاء موضحا في آيات كقوله : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] ، وقوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .

والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية ، وغير ذلك من المواضع ، [ ص: 532 ] وأحلنا عليها مرارا .

تنبيه :

اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، لأن الله - جل وعلا - وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق ، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره ، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم ، وذلك قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .

والمعنى : انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه ، من هو الذي خلق الماء الذي صار سببا لإنباته ، هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء ؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود ، ثم هب أن الماء خلق ، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقي به الأرض من غير هدم ولا غرق ؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض ، من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع ؟ ثم هب أن الزرع طلع ، فمن هو الذي يقدر على إخراج السنبل منه ؟ ثم هب أن السنبل خرج منه ، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحا للأكل ؟

انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، والمعنى : انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفا لا يصلح للأكل ، وانظروا إلى ينعه ، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعا مدركا صالحا للأكل ، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه - قادر على كل شيء ، منعم عليكم عظيم الإنعام ; ولذا قال : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر .

قوله تعالى : ثم شققنا الأرض [ 80 \ 25 ] أي عن النبات شقا إلى آخر ما بيناه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 65 ] ، يعني لو نشاء تحطيم ذلك الزرع لجعلناه حطاما ، أي فتاتا وهشيما ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم . ومفعول فعل المشيئة محذوف للاكتفاء عنه بجزاء الشرط ، وتقديره كما ذكرنا . وقوله : فظلتم تفكهون [ 56 \ 65 ] [ ص: 533 ] قال بعض العلماء : المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم .

وقال بعض العلماء : تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى : فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها [ 18 \ 42 ] .

وقال بعض العلماء : تندمون على معصية الله التي كانت سببا لتحطيم زرعكم . والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية