قوله تعالى : 
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون   . 
قد قدمنا مرارا أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا - فيه وجهان من التفسير معروفان . 
الأول منهما : هو أن تقلب مضارعته ماضوية ، ونفيه إثباتا ، فيكون بمعنى الماضي المثبت ، لأن " لم " حرف تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي ، وهمزة الاستفهام إنكارية ، فيها معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات ، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت . وعليه فالمعنى " ألم يأن للذين " أي : آن للذين آمنوا . 
والوجه الثاني : أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير ، وهو حمل المخاطب على أن   
[ ص: 547 ] يقر فيقول : بلى . وقوله : " يأن " : هو مضارع " أنى يأنى " إذا جاء إناه أي وقته ، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه : 
ولقد أنى لك أن تناهى طائعا أو تستفيق إذا نهاك المرشد فقوله : أنى لك أن تناهى طائعا ، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعا ، أي حضر وقت تناهيك ، ويقال في العربية : آن يئين كباع يبيع ، وأنى يأني كرمى يرمي ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر : 
ألما يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا 
والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين ، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي جاء الحين والأوان لذلك ، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه . 
وقوله تعالى : 
أن تخشع قلوبهم   [ 57 \ 16 ] ، المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في محل رفع فاعل بـ " أن " ، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض ، ومنه قول 
نابغة ذبيان    : 
رماد ككحل العين لأيا أبينه     ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع 
فقوله : " خاشع " أي منخفض مطمئن ، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب ، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون ، كما هو شأن الخائف . 
وقوله : 
لذكر الله ، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله ، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى : 
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم   [ 8 \ 2 ] ، أي خافت عند ذكر الله ، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه ، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد . 
وقال بعض العلماء : المراد بذكر الله القرآن ، وعليه فقوله : 
وما نزل من الحق   [ 57 \ 16 ] من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين ، كقوله تعالى : 
سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى   [ 87 \ 1 - 3 ] ، كما أوضحناه مرارا . 
وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى :   
[ ص: 548 ] الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله   [ 39 \ 23 ] . فالاقشعرار المذكور ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبر عنه بأحسن الحديث - يفسر معنى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق هنا كما ذكر . 
وقوله تعالى : 
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم   [ 57 \ 16 ] ، قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله : 
ثم قست قلوبكم   [ 2 \ 74 ] بعض أسباب قسوة قلوبهم ، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه ، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر . 
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين ، من أهل الكتاب - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : 
ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون   [ 3 \ 110 ] ، وقوله تعالى : 
ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون   [ 57 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .