صفحة جزء
[ ص: 31 ] قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب .

الضمير في ( منهم ) هنا عائد على بني النضير .

والفيء : الغنيمة بدون قتال ، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة .

وقال : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء [ 59 \ 6 ] أي : لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب ، وبما سلط عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الفيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشاركه فيه غيره .

وقد جاء مصداق ذلك عن عمر - رضي الله عنه - الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث " الأنفال " عند قوله : المسألة التاسعة : اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم ، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال لهما : إن الله كان خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ . ا هـ .

وكانت هذه خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي : عموما فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ 59 \ 7 ] .

وهذه الآية لعمومها مصدرا ومصرفا ، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة ، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال [ 8 \ 1 ] ، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل ، وما فتح من البلاد صلحا أو عنوة ، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه ، ولا غنى عنه ، والحمد لله تعالى .

قوله تعالى : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .

[ ص: 32 ] معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى ، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين :

الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره ، وهي المصدر ، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال .

وقال الزمخشري : معنى الآية : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم .

ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ؛ لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة ، وكانوا يقولون : من عز بز ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به ، إلخ .

والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال ؛ لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي ، قد ثبت خطؤه ، وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال .

لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة من الإنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور ، وليس يعطى للأفراد كما يقولون ، ثم هو أساسا مال جاء غنيمة للمسلمين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه .

ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص ، ولا هو أيضا كسب لشخص معين ، تحقق فيه العموم في مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم في مصرفه ، وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل .

ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الناس شركاء في ثلاثة : الماء والنار والكلأ " ، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير . أما إذا انتقل من مورده العام ، وأصبح في حيازة ما فلا شركة لأحد فيه مع من حازه ، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه ، فما كان في إنائه فهو خاص به ، وهذا الكلأ [ ص: 33 ] ما دام عشبا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه ، فإذا ما احتشه إنسان وحازه فلا شركة لأحد فيه ، وكذلك ما كان منه نابتا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره .

ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع ، والطير في الهواء يصاد . فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين ، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به ، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية ، وتعطى تراخيص رسمية لذلك .

وهناك العمل الجاري في تلك الدول ، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ ، وذلك في شركات المياه والنور ؛ فإنهم يجعلون في كل بيت عدادا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه ، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه .

وكذلك التيار الكهربائي ؛ فإنه نار ، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات ، ويبيعونه على المستهلك ، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء ، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة ، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماما .

حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالا من مال العدو ، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها ، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها ، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) .

( فلله ) : أي الجهاد في سبيل الله .

( وللرسول ) : لقيامه بأمر الأمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاما ، وما بقي يرده في سبيل الله .

( ولذي القربى ) : من تلزمه نفقتهم .

[ ص: 34 ] ( واليتامى والمساكين ) : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة .

( وابن السبيل ) : المنقطع في سفره ، وهذا تأمين للمواصلات .

فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .

وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله الآية [ 59 \ 7 ] ؛ لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس ، وهو موطن الشح والحرص ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس ، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك ، وهو في الميراث .

قسمه تعالى مبينا فروضه ، وحصة كل وارث ؛ لأنه كسب بدون مقابل ، وكسب إجباري . والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى ، وكذلك الفيء والغنيمة ، وحرم الغلول فيه قبل القسمة .

ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنما ، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه ، فإذا بهم يمنعون منه ، ويحال بينهم وبينه ، فيقسم المنقول فقط ، ولا يقسم العقار الثابت ، ويقال لهم : حدث هذا كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سواء الأغنياء بأبدانهم ، وقدرتهم على العمل ، وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك .

وكان لابد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال ، وفعلا ناقشوا عمر - رضي الله عنه فيه - ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت ، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص ، وهي به أقرب ، والمقام إليها أحوج .

وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال .

لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم ، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية [ ص: 35 ] وإيثار ، ومع هذا فقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته ، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا ، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه ، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد ، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه ، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يحملهم عليه ، ويأتيه القدح من اللبن ، فيدعو : " يا أهل الصفة " ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم ، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع ، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار ، منهم من يجهز الجيش من ماله ، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها ، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ، ومنهم ، فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل لم يأخذ منه درهما بدون رضاه ، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة ، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة ، يسد مسغبته ، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله .

إنها أموال محترمة ، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها ، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش ، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش ، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس ، إلا برضى نفس وطيب خاطر ، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون ، ويعطون ولا يشحون ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى .

وللشيخ - رحمه الله تعالى - كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] ، نسوق نصه لأهميته :

قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ، ولا تحويلها بوجه من الوجوه ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع [ ص: 36 ] النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم ، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال ، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ؛ لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .

فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .

وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير ، وهذا غني ، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] ، وفي قوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا وعيد شديد لمن فعل ذلك . انتهى حرفيا .

والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق ، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم ، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده ، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " ، فهو سبحانه يعطي بقدر ، ولا يمسك عن قتر .

ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى - عليه في أسلوبها في قوله تعالى : نحن قسمنا [ 43 \ 32 ] ، وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم ، ومثله الضمير في " قسمنا " ، فلا مجال لتدخل المخلوق ، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك . والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها ، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه ، كما قال تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] .

وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك ، ويقرون نظام الطبقات عمالا وغير عمال ، إلخ ، فلا دليل في آية سورة " الحشر " هنا : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ ص: 37 ] ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية