صفحة جزء
بدء مشروعيته :

اختلف في بدء المشروعية ، والصحيح أنه بدئ بعد الهجرة ، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة : أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة .

منها عن علي - رضي الله عنه - عند البزار : أنه شرع مع الصلاة .

[ ص: 123 ] ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة .

وقال ابن حجر : لا يصح شيء من ذلك .

أما مشروعيته بعد الهجرة ، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة تبين بدأه وكيفيته .

منها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين وغيرهما قال : " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد ، فتكلموا يوما في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال قم فناد بالصلاة " ، وفي الموطأ لمالك رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ؛ ليجتمع الناس للصلاة ، فأري عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان " .

وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى ، وصور مختلفة منها قالوا : " انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا أي : أعلمه عند حضور الصلاة ، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع ، وهو الشبور لليهود فلم يعجبه ، فقال هذا من أمر اليهود " .

وفي رواية أنس " أن ينوروا نارا فلم يعجبه شيء من ذلك كله " .

وفي حديث عبد الله بن زيد : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ؛ ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده ، فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ، فقلت : بلى ، فقال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " .

ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال : تقول إذا أقمت للصلاة : الله أكبر الله أكبر ، أشهد [ ص: 124 ] أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .

فلما أصبحت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال : " إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ، فإنه أندى صوتا منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول :

والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت ما رأى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فلله الحمد
" رواه أبو داود .

وفي رواية له ، فقال : " إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان " .

فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة ، وفي المدينة المنورة .

وهنا سؤال حول مشروعية الأذان ، قال بعض الناس : كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب ، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فناد بالصلاة " والجواب عن هذا من عدة وجوه :

منها : سند حديث عبد الله صحيح ، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله ، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطأ بإرادة اتخاذ خشبتين ، فأري عبد الله بن زيد خشبتين الحديث ، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة .

ومنها : أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر ؛ لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما ، إما أن بلالا كان ينادي بغير هذه الصيغة ، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالا .

وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة ، حتى لقد هممت أن أبث رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة ، وحتى هممت أن آمر [ ص: 125 ] رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا " ، قال : فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ، ثم قعد قعدة ، ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول : قد قامت الصلاة ، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد أراك الله خيرا فمر بلالا فليؤذن ، فقال عمر : أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت " . لأبي داود أيضا .

ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد هم أن يبث رجالا في الدور ، وعلى الآطام ينادون للصلاة ، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ ، وإما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان ، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه بلالا فنادى به ، ولا تعارض في ذلك كما ترى .

ومنها أيضا : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه ، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس ، والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : " إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر " إلخ .

ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها أقرها وقال : " إنها لرؤيا حق " ، أو لقد أراك الله حقا ، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال .

ثم جاء بعد ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأبي محذورة فصار سنة ثابتة ، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به بمجرد الرؤيا ، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا .

ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به ، ولما أخبره عمر قال له : " سبقك بذلك الوحي " ذكر في مراسيل أبي داود .

وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود .

ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم الأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين ، ذكرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى [ ص: 126 ] وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه . وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل .

من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة ، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه ، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم ، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية