صفحة جزء
ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منها مع بيان التثويب والترجيع

مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة ، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح ، وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره رضي الله عنهم .

وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم ، وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمه - صلى الله عليه وسلم - إليها .

وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم ، ولم يذكر البخاري واحدا منهما ، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية ، وحديث : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة على ما سيأتي إن شاء الله .

وعليه سنقدم حديث عبد الله ؛ لتقدمه في الزمن ، وألفاظه كما تقدم في بدء [ ص: 128 ] المشروعية ، هي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة ، ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه ، وإفراد آخره ، وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، ولفظها : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

قال الشوكاني : رواه أحمد وأبو داود ، وقال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وذكر له عدة طرق ، ومنها عند الحاكم ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، والبيهقي ، وابن ماجه .

حديث أبي محذورة ، وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدما من حنين ، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم ، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به ، فسمعهم - صلى الله عليه وسلم - فأحضرهم فقال : " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشاروا إلى أبي محذورة ، فحبسه وأرسلهم ، ثم قال له : قم فأذن بالصلاة فعلمه " .

أما ألفاظه : فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله ، والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع ، وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط :

الموضع الأول : عن أبي محذورة نفسه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

والموضع الثاني : في قصة الإغارة أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار ، فسمع رجلا يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على الفطرة " ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من النار " . . . الحديث .

[ ص: 129 ] والموضع الثالث : عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله " الحديث ، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة ، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس ، أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله ، كحديث عبد الله بن زيد ، وبالترجيع والتثويب في الفجر ، وفيها أن الترجيع يكون أولا بصوت منخفض .

ثم يرجع ويمد بهما - أي بالشهادتين - صوته ، وذلك عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان : الأولى قال : وعلمني النبي - صلى الله عليه وسلم - الإقامة مرتين مرتين : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

الثانية : مثل الأذان تماما بتربيع التكبير ، وبدون ترجيع ، وتثنية الإقامة أي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

فالأولى كالأذان في رواية مسلم ، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب ، وإضافة لفظ الإقامة مرتين .

هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة .

وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة ، وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة ، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة .

أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه ، وعند الجميع إثبات [ ص: 130 ] الترجيع في الشهادتين ، وأن الأولى منخفضة ، والثانية مرتفعة ، كبقية ألفاظ الأذان ، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين ، وجاءت مثل الأذان تماما عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة ، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي :

في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط :

أولا : ذكر الترجيع .

ثانيا : التثويب .

ثالثا : عدد التكبير في أوله .

أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به ; لأنه متأخر بعد الفتح ، ولا معارضة فيه ، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح .

وأما التثويب فقد ثبت من حديث بلال ، وكان أيضا متأخرا عن حديث عبد الله قطعا ، وقد ثبت أن بلالا أذن للصبح فقيل له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم فصرخ بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم .

قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر ، أي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " اجعل ذلك في أذانك " فاختصت بالفجر .

وذكر ابن قدامة - رحمه الله - في المغني عن بلال : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أن يثوب في العشاء " رواه ابن ماجه ، وقال : دخل ابن عمر - رضي الله عنهما - مسجدا يصلي فيه ، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة ، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة .

أما التكبير في أول الأذان ، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد ، وعند غير مسلم بتربيع التكبير ، وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا ، وبالنظر إلى ما عند غيره ، تجد فيه زيادة صحيحة ، وهي تربيع التكبير ، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع ; لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها .

أما الإقامة : ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم ، ولكنها في حديث أبي [ ص: 131 ] محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله ، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات ، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين ، وسند الجميع سواء .

فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة ؟ من حيث الصناعة بكل منهما في السند سواء .

وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان ، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى ; لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة ، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح ، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة ، وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، والإقامة مرة مرة غير أنه كان يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، رواه أبو داود والنسائي .

وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة .

فمن حديث بلال : نشفع الأذان ، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير ; لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع ، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع ، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع ، ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة ، كان تحقق الشفع بجملتين ، فيأتي أربع تكبيرات ، وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين ، ولهذا وقع الخلاف .

ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل ; لأننا نعد قولنا : حي على الصلاة ، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة ، وعليه فقولنا : الله أكبر الله أكبر كلمة ، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها ، فيأتي أربع تكبيرات : وهذا يتفق مع رواية الحديثين ، وحديث عبد الله تماما .

وقال النووي في شرح مسلم : قال القاضي عياض : إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات . اهـ .

وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان .

[ ص: 132 ] أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله ، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر ، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة ، أي : فهي مرتين ، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة ، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان .

ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله .

قال ابن رشد في البداية ما نصه : اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة :

إحداهما : تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى ، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره ، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان .

والصفة الثانية : أذان المكيين ، وبه قال الشافعي ، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين ، وتثنية باقي الأذان .

والصفة الثالثة : أذان الكوفيين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان ، وبه قال أبو حنيفة .

والصفة الرابعة : أذان البصريين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين ، وحي على الصلاة وحي على الفلاح ، يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة ، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين .

والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك ، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم ، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة ، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك ، وكذلك الكوفيون والبصريون ، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله . اهـ .

[ ص: 133 ] ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا ، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور ، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد ( 1 ) ص ( 564 ) وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور .

وقال في الإقامة : أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها ، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة ، فهي مثنى مثنى ، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها اهـ .

تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة ، وقد أجملها العلامة ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد تحت عنوان : فصل مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم - قال ما نصه :

وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة ، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال ، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير ، وأخذ أبو حنيفة ، وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ، وأخذ أحمد ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته ، أي : بتربيع التكبير وبدون ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة ، قال : وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة ; فإنه لا يكررها اهـ .

ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار ، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة . أما في عدم إعادة التكبير ، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم ، وعدم تكريره للفظ الإقامة ، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق ، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة ، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده ، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة .

وقال ابن تيمية كلمة فصل في ذلك ، في المجموع ج 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه : فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئا من ذلك ، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك ، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . اهـ .

[ ص: 134 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في موضع آخر : مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه : وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه .

وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقران .

تنبيه

قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء ، والصحيح أنه مرفوع ، كما في قصة بلال المتقدمة ، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها ؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام ، وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد .

التالي السابق


الخدمات العلمية