صفحة جزء
الصلاة بين أذان عثمان رضي الله عنه والأذان الذي بين يدي الإمام

تعود الناس في جميع الأمصار صلاة ركعتين عند الأذان الأول ، والذي يقع الآن قبل الوقت وقبل جلوس الإمام على المنبر ، وهو المسمى عند الفقهاء بأذان عثمان ، وقد تساءل الناس عن هذه الصلاة ، أهي سنة أم لا ؟ ويتجدد هذا السؤال من حين إلى آخر ، وأجمع ما رأيت فيه هو كلام ابن تيمية في رسالة خاصة ، جوابا على سؤال وجه إليه هذا نصه :

هل الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه أو التابعين أو الأئمة ، أم لا ؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : بين كل أذانين صلاة ، هل هو مخصوص بيوم الجمعة ، أم هو عام في جميع الأوقات ؟ فأجاب بقوله :

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ، ولا نقل هذا عن أحد ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبتين ، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس ، فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه - صلى الله عليه وسلم - ولا نقل عن أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة ، ولا وقت بقوله : " صلاة مقدرة قبل الجمعة " بل ألفاظه فيها الترغيب [ ص: 158 ] في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله : " من بكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، وصلى ما كتب له " . . . الحديث .

وهذا المأثور عن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر ، منهم من يصلي ثماني ركعات ، ومنهم من يصلي أقل من ذلك ، ولهذا كان جمهور الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد .

ثم قال : وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه ، وهو المشهور من مذهب أحمد .

وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة ، فمنهم من جعلها ركعتين ، ومنهم من جعلها أربعا تشبيها لها بسنة الظهر ، وقالوا : إن الجمعة ظهر مقصورة ، وهذا خطأ من وجهين وساقهما ، وخلاصة ما ساقه فيهما أن الجمعة لها خصائص لا توجد في الظهر فليست ظهرا مقصورة .

وكذلك أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سفره سنة للظهر ، أي : وهي مقصورة في السفر فلا تمسك في ذلك .

أما عن حديث : " بين كل أذانين صلاة " فالصواب أنه لا يقال إن قيل الجمعة سنة راتبة مقدرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " بين كل أذانين صلاة " مرتين ، وقال في الثالثة : " لمن شاء " .

وهذا يدل على أن الصلاة مشروعة قبل الأوقات الخمسة ، وأن ذلك ليس بسنة راتبة ، وقد احتج بعض الناس بهذا على الصلاة يوم الجمعة .

وعارض غيره قائلا : الأذان الذي على المنارة لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : ويتوجه عليه أن يقال : هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان - رضي الله عنه - واتفق عليه المسلمون صار أذانا شرعيا ، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة ، وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب ، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه ، وهذا أعدل الأقوال .

وكلام أحمد يدل عليه ، وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة ، لا سيما إذا داوم الناس عليها ، فينبغي تركها أحيانا ، كما ينبغي [ ص: 159 ] ترك قراءة السجدة يوم الجمعة أحيانا .

ثم قال : وإذا كان رجل مع قوم يصلونها ، فإن كان مطاعا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه ، بل عرفوا السنة ، فتركها حسن ، وإن لم يكن مطاعا ورأى في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع ، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقولهم له ونحو ذلك ، فهذا أيضا حسن .

فالعمل الواحد يكون مستحبا فعله تارة ، وتركه تارة ، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية .

كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم إلى آخره . اهـ ملخصا .

فأنت تراه قد بين أولا أنها ليست من فعله - صلى الله عليه وسلم - لعدم وجود مكان لها في عهده ، ولا في عهد صاحبيه من بعده ، وأن فعلها بعد حديث عثمان - رضي الله عنه - يرجع إلى حال الشخص ، فإن كان عاميا التمس له مخرج من حديث : " بين كل أذانين صلاة " ، لا على أنها سنة راتبة .

أما العالم الذي يقتدى به فإن كان مطاعا فتركها أحسن .

وتعليم الناس متعين ، وإن كان غير مطاع ويرجو نفعهم أو يخشى خصومة عليهم تضيع عليهم منفعتهم منه ، ففعلها تأليفا لقلوبهم ، فهذا حسن . اهـ ملخصا .

وهذا منه من أدق مسالك سياسة الدعوة إلى الله ، حيث ينبغي للداعي أن يراعي حالة العامة ، وأن يكون بفعله مؤثرا كتأثيره بقوله مع مراعاة الأحوال ما هو أصلح لهم فيما فيه سعة من الأمر ، كما بين أنها ليست بسنة راتبة .

وقد ساق ضمنا كلام العلماء في حكم الصلاة قبل الجمعة مطلقا ، أي عند المجئ وقبل الأذان ، وهذا كله ما عدا الداخل للمسجد وقت الخطبة فيما يتعلق بتحية المسجد .

وقال النووي في المجموع بعد مناقشة كلام المذهب ، قال :

وأما السنة قبلها فالعمدة فيها حديث عبد الله بن معقل المذكور : " بين كل أذانين صلاة " ، والقياس على الظهر ، قال : وذكر أبو عيسى الترمذي أن عبد الله بن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعا ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وهذا منهم على أنها [ ص: 160 ] راتبة الظهر انتقلت إلى الجمعة ، ولا علاقة لها بالأذان ، بل من حين مجيئه إلى المسجد .

التالي السابق


الخدمات العلمية