فصل 
قد ذكرت فيما كتبته من المناسك : أن 
السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب . 
وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه ، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين . فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة ، 
كمالك  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي  ، 
وأحمد  ، إلى أن قال : 
والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين ، لم يقل أحد من أئمة   
[ ص: 345 ] المسلمين : إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده ، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور . 
إلى أن قال : 
وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة ، فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى . 
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين ، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة ، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ، مسجده وغير مسجده ، وعند الخروج منه ; فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة . 
والسفر إلى مسجده مشروع ، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره ، حين كره 
مالك    - رحمه الله - أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده ، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم . اهـ . 
وإذا كان هذا كلامه ، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية . إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - مشروع وإن كان يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ويسلم عليه ، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال . 
أي : وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر . 
وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد . فلا موجب لهذا النقاش ، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال . 
وقد صرح بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه ، إذ يقول في ج 27 ص 342 من المجموع ، ما نصه :  
[ ص: 346 ] فمن سافر إلى 
المسجد الحرام  ، أو 
المسجد الأقصى  ، أو 
مسجد الرسول    - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى في مسجده وصلى في مسجد 
قباء  ، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح . 
ومن 
أنكر هذا السفر ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل . 
وأما من 
قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا يسلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع ضال ، مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولإجماع أصحابه ، ولعلماء الأمة . 
وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم . والثاني : أنه لا شيء عليه ، ولا أجر له . 
والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين . إلى أن قال : وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه . اهـ . 
فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول ، فإن كان في قوله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع . . إلخ . 
فمن من المسلمين يجيز لمسلم : أن يشد رحله إلى 
المدينة    ; لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ودون أن يصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة . 
فدل كلامه أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ، ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع . والحمد لله رب العالمين . 
وصرح في موضع آخر ص 346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب 
أحمد  أربعة أقوال . الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا - عليه الصلاة والسلام - . 
وقال في التعليل لهذا القول : إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده   
[ ص: 347 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل . 
وكذلك قال بعض أصحاب 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  ، إلى أن قال : وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم ، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان . 
وبعد نقله لأقوال العلماء ، قال ما نصه : 
وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر ، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة ، يثاب عليها بالصلاة في مسجده . 
وأما نفس القصد ، فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده ، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي . 
وهذا غاية في التصريح منه أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء . 
ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه ، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر . اهـ . 
وقد أكثرنا النقول عنه ; لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس ، حتى قال 
ابن حجر  في فتح الباري فيها : وهذا أعظم ما أخذ على 
ابن تيمية  ، فهي وإن كانت شهادة من 
ابن حجر  أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع ، إلا أنها - بحمد الله - بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه ، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله فلم يترك جانبا إلا وبينه ، سواء في حق العالم أو الجاهل . وبالله تعالى التوفيق . 
هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى 
المدينة المنورة  للمسجد وللزيارة معا ، على التفصيل المتقدم . 
أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة ، فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك ، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط ، أيا كانت تلك البقعة أو   
[ ص: 348 ] كانت تلك العبادة . وذلك لحديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة ، قال : " خرجت إلى 
الطور  ، فلقيت 
 nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار  فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009733خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق آدم  وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس ; شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه   " . 
قال 
كعب    : ذلك في كل سنة يوم . فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ 
كعب  التوراة ، فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة    : فلقيت 
بصرة بن أبي بصرة الغفاري  ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من 
الطور    . فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009587لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : إلى المسجد الحرام  ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء  أو بيت المقدس    " يشك 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة    . 
ثم لقيت 
 nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام  ، فحدثته بمجلسي مع 
 nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار  وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم . 
قال 
الباجي    : على هذا الحديث : خروج 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  إلى 
الطور  يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه ، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه ، إلا أن قول بصرة : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت . دليل على أن فهم منه التقرب بقصده . وسكوت 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده . أقول : لقد صرح 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة  أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد 
لأحمد  عن شهر ، وقال : حسن . 
والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد 
البصرة  أو 
الكوفة  أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه ; لحديث 
بصرة  المنصوص في ذلك ، وذلك أن 
النذر يكون فيما فيه القربة   . ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض ، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة ; فإنها تختص بالفضيلة . 
وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء   
[ ص: 349 ] بنذره ; لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها ، بل قد اقترن بذلك الرباط ، فوجب الوفاء به . 
ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة ، إلا ما قاله 
محمد بن مسلمة  في المبسوط . فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو 
مسجد قباء  ، فقال : من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك . اهـ . 
ولعل مقصد 
محمد بن مسلمة  في إضافته 
مسجد قباء ،  العمل بما جاء في 
مسجد قباء  من أثر اختص به عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك  فيما رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=16670عمر بن شبة  ، قال : حدثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=16071سويد بن سعيد  ، قال : حدثنا 
أيوب بن صيام  عن 
سعيد بن الرقيش الأسدي  ، قال : جاءنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك  إلى 
مسجد قباء  ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة   . 
وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله : 
وكان هذا الحكم معلوما عند العامة ، حتى قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16670ابن شبة    : قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=12125أبو غسان    : ومما يقوي هذه الأخبار ، ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة ، قول 
عبد الرحمن بن الحكم  في شعر له : 
فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء    . 
من اللاتي سوالفهن غيد عليهن الملاحة بالبهاء 
تنبيه . 
إن قول 
أنس  ليشعر بجواز 
شد الرحل إلى قباء  لو كان بعيدا ، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى ، فلا يتعارض مع الحديث الأول . 
تنبيه آخر . 
أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين 
لقباء  ، واجتماع الرجال والنساء .  
[ ص: 350 ] تنبيه ثالث . 
يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين 
زيارة عموم المقابر لعامة الناس ، وخصوص زيارة القبور الثلاثة . إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها ، وتذكر الآخرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009734كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة "   . 
أما هذه الثلاثة المشرفة ، فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها : 
أولا : ومن حيث الموضوع : ارتباطها 
بالمسجد النبوي  أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها . 
ثانيا : عظيم حق من فيها على المسلمين ، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب ، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ، وهداية الأمة ، والقيام بأمر الله ، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه ، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - . 
وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء ، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له . 
ثالثا : عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن يرد الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - روحه فيرد عليه السلام ، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر . وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم .