1. الرئيسية
  2. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
  3. سورة المدثر
  4. قوله تعالى عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا
صفحة جزء
قوله تعالى : عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر

في قوله تعالى : وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين :

الأول : التحريق كما في قوله : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] .

والثاني : الابتلاء . وقد تقدم للشيخ مرارا في كتابه ودروسه ، أن أصل الفتنة الاختبار . تقول : اختبرت الذهب إذا أدخلته النار ; لتعرف زيفه من خالصه .

ولكن السياق يدل على الثاني ، وهو الاختبار والابتلاء; لقوله تعالى :

وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا .

وقوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو أي : عددهم ، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار ، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ، ولما كان يصلح أن يجعل مثلا ، ولما كان الحديث عن عدد جنود ربك بحال ، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة .

الأولى : جعل المثل المذكور ، أي : جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان ، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون ، كما ذكر تعالى في صريح قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ 2 \ 62 ] .

ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] [ ص: 365 ] فهذه الآية من سورة " البقرة " مبينة تماما لآية " المدثر " .

المسألة الثانية : قوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة ، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم .

وقد ذكر القرطبي حديثا في ذلك واستغربه ، ولكن النص يشهد لذلك .

المسألة الثالثة : أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ، ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق .

المسألة الرابعة : بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى . وهو أعلم بما رواه .

وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع ، وهذا أمر واسع ، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات ، وتقدم المخترعات ، وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام ، فإنا نود أن نقول :

إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه ، علمنا الحكمة أو لم نعلم ; لأن علمنا قاصر ، وفهمنا محدود ، والعليم الحكيم الرءوف الرحيم - سبحانه - لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة .

ومجمل القول أن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة :

القسم الأول : حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة ، جاء : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، وهذه حكمة جليلة ، والزكاة جاء عنها أنها : تطهرهم وتزكيهم [ 9 \ 103 ] .

وفي الصوم جاء فيه : لعلكم تتقون [ 2 \ 183 ] .

وفي الحج جاء فيه : ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 28 ] . فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية .

وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست ، حفظ الدين ، والعقل ، والدم ، [ ص: 366 ] والعرض ، والنسب ، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن ، وصيانة المجتمع ، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك .

وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ، ولكنه لم يخل من حكمة : كالطواف ، والسعي ، والركوع ، والسجود ، والوضوء ، والتيمم ، والغسل ، ونحو ذلك .

وقسم ابتلاء وامتحان أولا ، ولحكمة ثانيا : كتحويل القبلة ، كما قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .

وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة [ 2 \ 150 ] .

والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد ، كما قال عمر عند استلامه للحجر : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك .

فقبله امتثالا واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : بلى يا أمير المؤمنين ، إنه يضر وينفع ، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله ; لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي - رضي الله عنه - .

وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - ، إذ خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، وكلها أعمال لم يعلم لها موسى - عليه السلام - حكمة ، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها .

وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم ، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم ، في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو .

فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها . والعلم عند الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية