صفحة جزء
[ ص: 369 ] بسم الله الرحمن الرحيم .

سورة القيامة .

قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة

قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءة قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : " لا أقسم " مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج ، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرءان ذلك : " لأقسم بيوم القيامة " . بمعنى : أقسم بيوم القيامة .

ثم دخلت عليها لام القسم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع " لا " مفصولة ، " أقسم " مبتدأة على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه .

وقد اختلف الذين قرءوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله ، فقال بعضهم : لا صلة ، وإنما معنى الكلام : " أقسم بيوم القيامة " ، وعزاه إلى سعيد بن جبير .

وقال آخرون : بل دخلت " لا " توكيدا للكلام .

وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله : " لا أقسم " توكيد للقسم ، كقوله : لا والله .

وقال بعض نحوي الكوفة : " لا " رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار .

ثم ابتدئ القسم ، فقيل : أقسم بيوم القيامة ، وكان يقول : كل يمين قبلها رد كلام ، فلا بد من تقديم " لا " قبلها ; ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف ، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحق ، وإذا قلت : لا والله ، إن الرسول لحق ، فكأنك أكذبت قوما أنكروه ، واختلفوا أيضا في ذلك هل هو قسم أم لا ؟ .

وذكر الخلاف في ذلك ، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام ، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة ؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها ؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم ؟ وهل وقع إقسام أم لا ؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير .

[ ص: 370 ] وقد تناولها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين ، الأول : في هذه السورة . والثاني : في سورة " البلد " عند قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] ، فبين في الموضع الأول أنها - أي " لا " - : نافية لكلام قبلها ; فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلا الواقع في قوله تعالى : واليوم الموعود [ 85 \ 2 ] .

والثاني : أنها صلة ، وقال : سيأتي له زيادة إيضاح ، والموضع الثاني : لا أقسم بهذا البلد ، ساق فيه بحثا طويلا مهما جدا نسوق خلاصته . وسيطبع الكتاب - إن شاء الله - مع هذه التتمة فليرجع إليه .

خلاصة ما ساقه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - :

قال : الجواب عليها من أوجه . الأول - وعليه الجمهور - : أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] . يعني أن تتبعني .

وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] .

وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] .

وقول امرئ القيس :


فلا وأبيك ابنة العامري لا يدع القوم أني أفر



يعني وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر :


ما كان يرضى رسول الله دينهم     والأطيبان أبو بكر ولا عمر



يعني وعمر ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :


في بئر لا حور سرى وما شعر     بإفكه حتى رأى الصبح شجر



والحور : الهلكة : يعني في بئر هلكة ، وأنشد غيره :


تذكرت ليلى فاعترتني صبابة     وكاد صميم القلب لا يتقطع



والوجه الثاني : أن " لا " نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 371 ] وقوله : أقسم : إثبات مستأنف .

وقيل : إن هذا الوجه ، وإن قال به كثير من العلماء ، إلا أنه ليس بوجيه عندي ; لقوله تعالى في سورة القيامة : ولا أقسم بالنفس اللوامة ; لأن قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله " أقسم " والله تعالى أعلم .

الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به . فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد أنه لا يعظم بالقسم ، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أو لا . وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من نظر .

الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء ، أشبعت فتحتها . والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف ، والكسرة بياء ، والضمة بواو . ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن الحارث :


وتضحك مني شيخة عبشمية     كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا



فالأصل : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .

وقول الراجز :


إذا العجوز غضبت فطلق     ولا ترضاها ولا تملق



وقول عنترة في معلقته :


ينباع من ذفرى غضوب جسرة     زيافة مثل العتيق المكدم



فالأصل ينبع ، يعني العرق ، ينبع من الذفرى : من ناقته ، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع ، وقال : ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر .

ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة ، ثم قال : يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن . والعلم عند الله تعالى اهـ . ملخصا .

فأنت ترى أنه - رحمه الله - قدم فيها أربعة أوجه : صلة ، ونفي الكلام قبلها ، وتأكيد [ ص: 372 ] للقسم ، ولام ابتداء . واستدل له بقراءة قنبل ، أي : " لأقسم " متصلة ، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن ، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة ; لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة : لا أقسم .

ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم ، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية