صفحة جزء
الحفاوة بها .

لقد بين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر كلها ; التماسا لتلك الليلة ، فكان يحييها قائما في معتكفه ، كما جاء في الحديث : " وإذا جاء العشر : شد مئزره ، وطوى فراشه ، وأيقظ أهله " ، فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم ، بل اجتهاد في العبادة .

وكذلك شهر رمضان بكامله ; لكونه أنزل فيه القرآن أيضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله ، لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كماله بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع .

ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وجد اليهود يصومونه ، فقال لهم : " لم تصومونه ؟ " ، فقالوا : يوما نجى الله فيه موسى من فرعون ، فصامه شكرا لله فصمناه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم " ، فصامه ، وأمر الناس بصيامه . إنها مناسبة عظمى : نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان .

وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم ، نحن معشر الأنبياء أبناء علات ، ديننا واحد " .

وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى - عليه السلام - به في صيامه شكرا لله .

وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة ، لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات [ ص: 389 ] المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية ، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا ; حيث لا مدد للمسلمين ، ولا سبيل للانسحاب ، ولا بد لهم من إتمام العمرة .

فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ، ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " ، فهرولوا في الطواف ، وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين ، حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك ، وسلم المسلمون .

فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غدر قريش ، فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين .

قال العلماء : بقي هذا العمل ; تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا ، وتذكروا لهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة .

وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم :

اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة .

إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض ، وحصى الجمار ، وأيام الأسبوع . إلخ .

وذلك لتصل إلى أقصى الجهد ، وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء ، وتتوجه بكليتها وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها .

فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له .

وهكذا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة [ ص: 390 ] كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [ 37 \ 102 ] .

إنه حدث خطير ، وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد :

ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال .

والكل ماض في سبيل التنفيذ : فلما أسلما وتله للجبين [ 37 \ 103 ] ، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ، ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟

إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن - رحمة الله - أوسع ، وفرجه من عنده أقرب : وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 104 - 105 ] .

فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة ، خلدها الإسلام في الهدي والضحية .

وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى .

وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية .

لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح ، والعهد الذي وثق بين الطرفين ، وقد سماه الله فتحا ، كما قال تعالى : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .

[ ص: 391 ] ونزلت سورة " الفتح " في عودته - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية .

وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم .

وكذلك يوم فتح مكة ، وتحطيم الأصنام ، والقضاء نهائيا على دولة الشرك في البلاد العربية ، ومن قبل ذلك ليلة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ونزوله في الغار ، إذ كان فيها نجاته - صلى الله عليه وسلم - من فتك المشركين ، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار ، حينما كان يسير أحيانا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحيانا خلفه ، فسأل - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتذكر الرصد فأكون أمامك ، وأتذكر الطلب فأكون خلفك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ " .

فقلت : نعم ; فداك أبي وأمي يا رسول الله ; فإني إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك
" .

وكذلك وصوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة ، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملا خاصا به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى ، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ ، فهل يقفون صما بكما أم ينطقون بكلمة تعبير ؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال ، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر ، وما لا يرضي الله ولا رسوله .

إنه إن يكن من شيء ، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل تلك المناسبات من عبادة في : صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت .

وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء ، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد ، وتكون ضمن عموم قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وضمن قوله تعالى فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] رأي بقصص الماضين .

ونحن أيضا نقص على أجيالنا بعد هذه القرون ، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا ؟

وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة . وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية