صفحة جزء
[ ص: 25 ] وقال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على حديث معاوية هذا ما نصه : وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - نظير ما وقع في حديث معاوية ، ذكره محمد بن إسحاق في الكتاب الكبير ، فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر ، وفيها : فقال أبو بكر : وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله ، واستقاموا على أمره . وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء : الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به . كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال : " الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا : ما حكموا فعدلوا " ، الحديث ، وفيه : " فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله " وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم .

الثاني : وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم . فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه : " إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا ، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب " . ورجاله ثقات إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه ، هذه رواية صالح بن كيسان ، عن عبيد الله ، وخالفه حبيب بن أبي ثابت ، فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمن ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه : " لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته " الحديث .

وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته ، وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار ، أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ، ولفظه : قال لقريش : " أنتم أولى بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم ، وإن كان فيه إشعار به .

الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي ، والطبراني من حديث ثوبان رفعه : " استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم ، فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " . ورجاله ثقات ، إلا أن فيه انقطاعا ; لأن رواية سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان ، وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه .

[ ص: 26 ] وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء - وهو ابن أخي النجاشي - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم ، وصيره في قريش ، وسيعود لهم " وسنده جيد ، وهو شاهد قوي لحديث القحطاني ; فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان ، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية : " ما أقاموا الدين " أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم . انتهى .

واعلم أن قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور ، إنه سيكون ملك من قحطان إذا كان عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه ، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " . أخرجه البخاري في " كتاب الفتن " في " باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان " ، وفي " كتاب المناقب " في " باب ذكر قحطان " ، وأخرجه مسلم في " كتاب الفتن وأشراط الساعة " في " باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل ، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء " وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء : اسمه جهجاه ، وقال بعضهم : اسمه شعيب بن صالح ، وقال ابن حجر في الكلام على حديث القحطاني هذا ما نصه : وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج : وتقدم الجمع بينه وبين حديث : " لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ، وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة " فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم ، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .

ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله : " الإيمان يمان " أي : يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا . انتهى منه بلفظه والله أعلم ، ونسبة العلم إليه أسلم .

الثاني : من شروط الإمام الأعظم : كونه ذكرا ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، [ ص: 27 ] ويدل له ما ثبت في " صحيح البخاري " وغيره من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " .

الثالث : من شروط الإمام الأعظم كونه حرا . فلا يجوز أن يكون عبدا ، ولا خلاف في هذا بين العلماء .

فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد ، فقد أخرج البخاري في [ صحيحه ] من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " .

ولمسلم من حديث أم الحصين : اسمعوا وأطيعوا ، ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله .

ولمسلم أيضا من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع ، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف . فالجواب من أوجه : الأول : أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود ، فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة ، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك ، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي ، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى : ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) [ 43 \ 81 ] على أحد التفسيرات .

الوجه الثاني : أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها ، فليس هو الإمام الأعظم .

الوجه الثالث : أن يكون أطلق عليه اسم العبد ; نظرا لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر ، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا في قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) الآية [ 4 \ 2 ] ، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب ; إخمادا للفتنة ، وصونا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه .

والمراد بالزبيبة في هذا الحديث واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف ، والمقصود من التشبيه : التحقير وتقبيح الصورة ; لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما [ ص: 28 ] يأتي ، ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم : " كأنه زبيبة " قول الشاعر يهجو شخصا أسود :

دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا



الرابع : من شروطه أن يكون بالغا ، فلا تجوز إمامة الصبي إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة .

الخامس : أن يكون عاقلا ، فلا تجوز إمامة المجنون ، ولا المعتوه ، وهذا لا نزاع فيه .

السادس : أن يكون عدلا ، فلا تجوز إمامة فاسق ، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى : ( قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) [ 2 \ 124 ] ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام ; لأن العدل لا يكون غير مسلم .

السابع : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين ، مجتهدا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .

الثامن : أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك ، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين ، أعني : العلم وسلامة الجسم ؛ قوله تعالى في طالوت : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) [ 2 \ 247 ] .

التاسع : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب ، وتدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وحماية بيضة المسلمين ، وردع الأمة ، والانتقام من الظالم ، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي : [ البسيط ]

وقلدوا أمركم لله دركم     رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا



العاشر : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ، ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأعضاء ، ويدل ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية