صفحة جزء
وقال بعض العلماء : المراد بمسح الرجلين غسلهما . والعرب تطلق المسح على الغسل أيضا ، وتقول تمسحت بمعنى توضأت ، ومسح المطر الأرض أي غسلها ، [ ص: 336 ] ومسح الله ما بك أي غسل عنك الذنوب والأذى ، ولا مانع من كون المراد بالمسح في الأرجل هو الغسل ، والمراد به في الرأس المسح الذي ليس بغسل ، وليس من حمل المشترك على معنييه ، ولا من حمل اللفظ على حقيقته ومجازه ، لأنهما مسألتان كل منهما منفردة عن الأخرى مع أن التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه ، كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن ، وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله ، وجمع ابن جرير الطبري في تفسيره بين قراءة النصب والجر بأن قراءة النصب يراد بها غسل الرجلين ، لأن العطف فيها على الوجوه والأيدي إلى المرافق ، وهما من المغسولات بلا نزاع ، وأن قراءة الخفض يراد بها المسح مع الغسل ، يعني الدلك باليد أو غيرها .

والظاهر أن حكمة هذا في الرجلين دون غيرهما ; أن الرجلين هما أقرب أعضاء الإنسان إلى ملابسة الأقذار لمباشرتهما الأرض فناسب ذلك أن يجمع لهما بين الغسل بالماء والمسح أي الدلك باليد ليكون ذلك أبلغ في التنظيف .

وقال بعض العلماء : المراد بقراءة الجر : المسح ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ذلك لا يكون إلا على الخف .

وعليه فالآية تشير إلى المسح على الخف في قراءة الخفض ، والمسح على الخفين ، إذا لبسهما طاهرا ، متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يخالف فيه إلا من لا عبرة به ، والقول بنسخه بآية المائدة يبطل بحديث جرير أنه بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال : نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، متفق عليه .

ويوضح عدم النسخ أن آية المائدة نزلت في غزوة " المريسيع " .

ولا شك أن إسلام جرير بعد ذلك ، مع أن المغيرة بن شعبة روى المسح على الخفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، وهي آخر مغازيه - صلى الله عليه وسلم - .

وممن صرح بنزول آية المائدة في غزوة " المريسيع " ابن حجر في " فتح الباري " ، وأشار له البدوي الشنقيطي في " نظم المغازي " ، بقوله في غزوة المريسيع : [ الرجز ]


والإفك في قفولهم ونقلا أن التيمم بها قد أنزلا



[ ص: 337 ] والتيمم في آية المائدة ، وأجمع العلماء على جواز المسح على الخف الذي هو من الجلود ، واختلفوا فيما كان من غير الجلد إذا كان صفيقا ساترا لمحل الفرض ، فقال مالك وأصحابه : لا يمسح على شيء غير الجلد ; فاشترطوا في المسح أن يكون الممسوح خفا من جلود ، أو جوربا مجلدا ظاهره وباطنه ، يعنون ما فوق القدم وما تحتها لا باطنه الذي يلي القدم .

واحتجوا بأن المسح على الخف رخصة ، وأن الرخص لا تتعدى محلها ، وقالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح على غير الجلد ; فلا يجوز تعديه إلى غيره ، وهذا مبني على شطر قاعدة أصولية مختلف فيها ، وهي : هل يلحق بالرخص ما في معناها ، أو يقتصر عليها ولا تعدى محلها ؟ .

ومن فروعها اختلافهم في بيع " العرايا " من العنب بالزبيب اليابس ، هل يجوز إلحاقا بالرطب بالتمر أو لا ؟ .

وجمهور العلماء منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وأصحابهم على عدم اشتراط الجلد ، لأن سبب الترخيص الحاجة إلى ذلك وهي موجودة في المسح على غير الجلد ، ولما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه مسح على الجوربين ، والموقين .

قالوا : والجورب : لفافة الرجل ، وهي غير جلد .

وفي القاموس : الجورب لفافة الرجل ، وفي اللسان : الجورب لفافة الرجل ، معرب وهو بالفارسية " كورب " .

وأجاب من اشترط الجلد بأن الجورب هو الخف الكبير ، كما قاله بعض أهل العلم ، أما الجرموق والموق ، فالظاهر أنهما من الخفاف .

وقيل : إنهما شيء واحد ، وهو الظاهر من كلام أهل اللغة . وقيل : إنهما متغايران ، وفي القاموس : الجرموق : كعصفور الذي يلبس فوق الخف ، وفي القاموس أيضا : الموق خف غليظ يلبس فوق الخف ، وفي اللسان : الجرموق ، خف صغير ، وقيل : خف صغير يلبس فوق الخف ، في اللسان أيضا : الموق الذي يلبس فوق الخف ، فارسي معرب ، والموق : الخف اهـ .

قالوا : والتساخين : الخفاف ، فليس في الأحاديث ما يعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح [ ص: 338 ] على غير الجلد ، والجمهور قالوا : نفس الجلد لا أثر له ، بل كل خف صفيق ساتر لمحل الفرض يمكن فيه تتابع المشي ، يجوز المسح عليه ، جلدا كان أو غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية