صفحة جزء
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في جواز المسح على النعلين ، فقال قوم : يجوز المسح على النعلين وخالف في ذلك جمهور العلماء ، واستدل القائلون بالمسح على [ ص: 342 ] النعلين بأحاديث ، منها ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبي قيس الأودي ، هو عبد الرحمن بن ثروان ، عن هزيل بن شرحبيل ، عن المغيرة بن شعبة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح الجوربين والنعلين " ، قال أبو داود : وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ، وروى هذا الحديث البيهقي .

ثم قال : قال أبو محمد : رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر ، وقال أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل : لا يحتملان مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة ، فقالوا : مسح على الخفين ، وقال : لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل ، فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي ، فسمعته يقول : علي بن شيبان يقول : سمعت أبا قدامة السرخسي يقول : قال عبد الرحمن بن مهدي : قلت لسفيان الثوري : لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هزيل ما قبلته منك ، فقال سفيان : الحديث ضعيف أو واه ، أو كلمة نحوها ، اهـ .

وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال حدثت أبي بهذا الحديث ، فقال أبي : ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس ، قال أبي : إن عبد الرحمن بن مهدي ، يقول : هو منكر ، وروى البيهقي أيضا عن علي بن المديني أنه قال : حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة ، إلا أنه قال : ومسح على الجوربين ، وخالف الناس .

وروي أيضا عن يحيى بن معين ، أنه قال في هذا الحديث : الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ، ثم ذكر أيضا ما قدمنا عن أبي داود من أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ، وقال أبو داود : وروي هذا الحديث أيضا عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بالقوي ولا بالمتصل ، وبين البيهقي مراد أبي داود بكونه غير متصل وغير قوي ، فعدم اتصاله ، إنما هو لأن راويه عن أبي موسى الأشعري هو الضحاك بن عبد الرحمن ، قال البيهقي : والضحاك بن عبد الرحمن : لم يثبت سماعه من أبي موسى ، وعدم قوته ; لأن في إسناده عيسى بن سنان ، قال البيهقي : وعيسى بن سنان ضعيف ، اهـ .

[ ص: 343 ] وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لين الحديث ، واعترض المخالفون تضعيف الحديث المذكور في المسح على الجوربين والنعلين ، قالوا : أخرجه أبو داود ، وسكت عنه ، وما سكت عنه فأقل درجاته عنده الحسن ، قالوا : وصححه ابن حبان ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، قالوا : وأبو قيس وثقه ابن معين ، وقال العجلي : ثقة ثبت ، وهزيل وثقه العجلي ، وأخرج لهما معا البخاري في صحيحه ، ثم إنهما لم يخالفا الناس مخالفة معارضة ، بل رويا أمرا زائدا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض ، فيحمل على أنهما حديثان قالوا : ولا نسلم عدم سماع الضحاك بن عبد الرحمن من أبي موسى ، لأن المعاصرة كافية في ذلك كما حققه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه ; ولأن عبد الغني قال في " الكمال " : سمع الضحاك من أبي موسى ، قالوا : وعيسى بن سنان ، وثقه ابن معين وضعفه غيره ، وقد أخرج الترمذي في " الجنائز " حديثا في سنده عيسى بن سنان هذا ، وحسنه .

ويعتضد الحديث المذكور أيضا بما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر الثابت في الصحيح أن عبيد بن جريج قال له : يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ، قال : ما هن ؟ فذكرهن ، وقال فيهن : رأيتك تلبس النعال السبتية ، قال : أما النعال السبتية ، " فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها " .

قال البيهقي ، بعد أن ساق هذا الحديث بسنده : ورواه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف عن مالك ، ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، ورواه جماعة عن سعيد المقبري ، ورواه ابن عيينة عن ابن عجلان عن المقبري ، فزاد فيه : ويمسح عليها ; وهو محل الشاهد ، قال البيهقي : وهذه الزيادة وإن كانت محفوظة فلا ينافي غسلهما ، فقد يغسلهما في النعل ، ويمسح عليهما .

ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا في المسح على النعلين بما رواه البيهقي بإسناده عن زيد بن وهب ، قال : بال علي ، وهو قائم ثم توضأ ، ومسح على النعلين ، ثم قال : وبإسناده قال : حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، عن أبي ظبيان ، قال : " بال علي وهو قائم ثم توضأ ومسح على النعلين ثم خرج فصلى الظهر " .

وأخرج البيهقي أيضا نحوه عن أبي ظبيان بسند آخر ، ويعتضد الاستدلال المذكور [ ص: 344 ] بما رواه البيهقي أيضا من طريق رواد بن الجراح ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ، ومسح على نعليه " .

ثم قال : هكذا رواه رواد بن الجراح ، وهو ينفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها ، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة .

وروي عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا ، وليس بمحفوظ ، ثم قال : أخبرنا أبو الحسن بن عبدان ، أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني ، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي ، حدثني أبي ، ثنا زيد بن الحباب ، ثنا سفيان فذكره بإسناده : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على النعلين " ، اهـ .

قال البيهقي بعد أن ساقه : والصحيح رواية الجماعة ، ورواه عبد العزيز الدراوردي ، وهشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، فحكيا في الحديث : " رشا على الرجل وفيها النعل " ، وذلك يحتمل أن يكون غسلها في النعل .

فقد رواه سليمان بن بلال ، ومحمد بن عجلان ، وورقاء بن عمر ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير ، عن زيد بن أسلم ، فحكوا في الحديث غسله رجليه ، والحديث حديث واحد .

والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير ، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه ، ويعتضد الاستدلال المذكور أيضا بما رواه البيهقي أيضا ، أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا مسدد ، وعباد بن موسى ، قالا : ثنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، عن أبيه ، قال عباد : قال : أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه " .

وقال مسدد : إنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورواه حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء ، عن أوس الثقفي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه " وهو منقطع ، أخبرناه أبو بكر بن فورك ، أنا عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود الطيالسي ، ثنا حماد بن سلمة ، فذكره .

وهذا الإسناد غير قوي ، وهو يحتمل ما احتمل الحديث الأول ، اهـ كلام البيهقي .

ولا يخفى أن حاصله أن أحاديث المسح على النعلين منها ما هو ضعيف لا يحتج [ ص: 345 ] به ، ومنها ما معناه عنده : " أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه في النعلين " .

ثم استدل البيهقي على أن المراد بالوضوء في النعلين غسل الرجلين فيهما بحديث ابن عمر ، الثابت في الصحيحين ، أنه قال : " أما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها ، فأنا أحب أن ألبسها " اهـ .

ومراد البيهقي أن معنى قول ابن عمر " ويتوضأ " فيها أنه يغسل رجليه فيها ، وقد علمت أنا قدمنا رواية ابن عيينة التي ذكرها البيهقي عن ابن عجلان ، عن المقبري ، وفيها زيادة " ويمسح عليها " .

وقال البيهقي - رحمه الله - في منع المسح على النعلين والجوربين : والأصل وجوب غسل الرجلين إلا ما خصته سنة ثابتة ، أو إجماع لا يختلف فيه ، وليس على المسح على النعلين ولا على الجوربين واحد منهما ، اهـ .

وأجيب من جهة المخالفين بثبوت المسح على الجوربين والنعلين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : إن الترمذي صحح المسح على الجوربين والنعلين ، وحسنه من حديث هزيل عن المغيرة ، وحسنه أيضا من حديث الضحاك عن أبي موسى ، وصحح ابن حبان المسح على النعلين من حديث أوس ، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في المسح على النعال السبتية .

قالوا : وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب ، عن الثوري في المسح على النعلين ، حديث جيد قالوا : وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ، ويمسح عليهما .

ويقول : " كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل "
، وصححه ابن القطان .

وقال ابن حزم : المنع من المسح على الجوربين خطأ ، لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاف الآثار . هذا حاصل ما جاء في المسح على النعلين والجوربين .

قال مقيده - عفا الله عنه - : إن كان المراد بالمسح على النعلين والجوربين ، أن [ ص: 346 ] الجوربين ملصقان بالنعلين ، بحيث يكون المجموع ساترا لمحل الفرض مع إمكان تتابع المشي فيه ، والجوربان صفيقان فلا إشكال .

وإن كان المراد المسح على النعلين بانفرادهما ، ففي النفس منه شيء ; لأنه حينئذ لم يغسل رجله ، ولم يمسح على ساتر لها ، فلم يأت بالأصل ، ولا بالبدل .

والمسح على نفس الرجل ترده الأحاديث الصحيحة المصرحة بمنع ذلك بكثرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويل للأعقاب من النار " ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية