صفحة جزء
قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم

تقريع وتوبيخ لهؤلاء الناس ، وفيه مسألتان :

الأولى : أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث ، أو اليقين موجود لكنهم يعلمون على غير الموقنين - أي غير مبالين - كما قال الشاعر في مثل ذلك ، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة :


جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح

فالمتكلم يعلم أن شقيقا عالم بوجود الرماح في بني عمه ، وأنهم مستعدون للحرب [ ص: 459 ] معه ، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد ، بأن وضع رمحه أمامه معترضا ، فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه ، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله ، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد ، وهكذا هنا ، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ .

أي : وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب .

المسألة الثانية من قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 6 ] يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهم يعلمون هذا حقيقة غالبا ، ولا يطلع عليه الطرف الآخر ، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله ، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه ، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه ، ولذا قال تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ولم يقل : يوم يقتص لكل إنسان من غريمه ، ويستوفي كل ذي حق حقه .

تحذير شديد .

قال القرطبي عند هذه الآية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ؟ ! . اهـ .

إنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أيا كان هو ، وبأي وجه يكون ذلك .

تنبيه .

من المعلوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه ، فالمطفف لا بد أن يخفي طريقه على غريمه .

وذكر علماء الحسبة طرقا عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة ، وللمتعامل مع غيره عامة أن يتنبه لها .

من ذلك قالوا : أولا من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال لينا فيضغطه بين [ ص: 460 ] يديه ، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه ، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلبا ، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله .

ومنها : أنه قد يكون خشبا منقورا من جوفه ، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب ، فيرى من خارجه كبيرا ، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره .

ومنها : قد يكون منقورا إلى نهاية الحد المطلوب ، ولكنه يدخل فيه شيئا يشغل فراغه من أسفله ، ويثبته في قعره . فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور ، فقد يضع ورقا أو خرقا أو جبسا أو نحو ذلك .

ثانيا : من ناحية الميزان قد يبرد السنج ، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها ، وقد يجوف منها شيئا ويملأ التجويف بمادة أخف منها .

ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير ، وقد يتخذ معايرا من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام .

ومنها : أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئا مثقلا لاصقا فيها ، لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء .

ولكيلا يظهر هذا ، فتراه دائما يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها .

وهناك أنواع كثيرة ، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة ، فترجح بسبب قوة الدفع ، فيأخذ السلعة حالا قبل أن ترجع إلى أعلى ، موهما الناظر أنها راجحة بالميزان .

أما آلة الذرع ، فقد يكون المقياس كاملا وافيا ، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول يدفع بالآلة إلى الخلف ، ويسحب بالمذروع إلى الأمام بمقدار الكف مثلا ، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماش .

وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس ، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في ميزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة يأتي بطريقة تغاير الأخرى ، حتى قضى ما عنده ، فالتفت إلي وقال لي : لا أبيع بهذا السعر ، فقلت له : خذ ما تريد وزن كما أريد ، فطلب ضعف الثمن ، فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي .

وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة ، حينما يكون السعر مرتفعا وتجد بائعا يبيع [ ص: 461 ] برخص ، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة ، أو مضرة الآخر .

تنبيه آخر .

بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر - رضي الله عنه - يتجول في السوق بنفسه ، ويتفقد المكيال والميزان . يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصانا ، ويقول : لا تمنع عنا المطر .

وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار ، ولا سيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني ، وتشتد فيها الأسعار ، بما يلجئ الباعة إلى التحايل أو العناد .

وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر ، لعلمه أن تاجرا قدم ومعه زبيب بكثرة ، فقيل لعمر : لماذا منعت البيع برخص ؟ فقال : لأنه يفسد السوق ، فيخسر القادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة ، وهذا قد ربح من قبل .

تنبيه آخر .

مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان ، كما قال علماء الحسبة : إن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع : في نوع المكيال والميزان ، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها ، وإعلان الحرب أو قبول الصلح .

فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح ، أو أي نوع كبيرا كان أو صغيرا ، فيجب التقيد به في الأسواق .

وكذلك الوزن ؛ اتخذ الدرهم والأوقية والرطل أو الأقة ، أو اتخذ الجرام والكيلو ، فكل ذلك له .

أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلا : كقسمة صبرة من حب ، فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطا ، لا تختلف به المرات بأن يكون صلبا ويمكن الكيل به .

أو كذلك الوزن ، اتفقوا على قطعة حديد معينة ، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك ; لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء .

[ ص: 462 ] أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين ، فقد تقدم بيانها من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في زكاة ما يخرج من الأرض ، وزكاة النقدين ، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر ، عند قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ 70 \ 24 - 25 ] . وبالله تعالى التوفيق .

غريبة .

في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - فيما يرى النائم ، وبعد أن ذهب عني ، رأيت من يقول لي : إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا ، فألحقته في أول البحث ، بعد أن تأملته فوجدته صحيحا بسبب المفاضلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية