صفحة جزء
المسألة الثالثة : هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وابن أبي سلمة ، والليث ، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضا واجبا ، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وابن نافع ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي .

[ ص: 360 ] قال ابن نافع : من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا ، وقال مالك : في المدونة يعيد في الوقت ، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعا ، عن جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وأبي أمامة ، وعائشة ، وعمار ، والأسلع ، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى ، وبه كان يقول ابن عمر ، وقال ابن شهاب : يمسح في التيمم إلى الآباط .

واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين ، وبأن ابن عمر كان يفعله ، وبالقياس على الوضوء ، وقد قال تعالى فيه : وأيديكم إلى المرافق .

قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر من الأدلة والله تعالى أعلم ، أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط ، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار : وحديث أبي جهيم المتقدمين .

أما حديث أبي جهيم ، فقد ورد بذكر اليدين مجملا ، كما رأيت ، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين ، كما قدمنا آنفا . وورد في غيرهما بذكر المرفقين ، وفي رواية إلى نصف الذراع ، وفي رواية إلى الآباط ، فأما رواية المرفقين ، ونصف الذراع ، ففيهما مقال سيأتي ، وأما رواية الآباط ، فقال الشافعي وغيره : إن كان ذاك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل تيمم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له ; وإن كان وقع بغير أمره ، فالحجة فيما أمر به ، ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين ، كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ; وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ; ولا سيما الصحابي المجتهد ، قاله ابن حجر في " الفتح " .

وأما فعل ابن عمر ، فلم يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه ، وهو حديث عمار .

وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف ، أنه قال : " مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك ، وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه ، فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك ، فضرب بيده على حائط ، ومسح بها وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه " ، ومدار الحديث على محمد بن ثابت ، وقد ضعفه ابن معين ، وأحمد والبخاري وأبو حاتم . وقال أحمد ، والبخاري : ينكر عليه حديث التيمم . أي [ ص: 361 ] هذا ، زاد البخاري : خالفه أيوب ، وعبيد الله والناس ، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله .

وقال أبو داود : لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورووه من فعل ابن عمر ، وقال الخطابي : لا يصح ; لأن محمد بن ثابت ضعيف جدا ، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي أبو عبد الله البصري ، قال فيه في " التقريب " : صدوق ، لين الحديث .

واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان ، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين ، ولا على الذراعين ; لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته ، وابن الهاد قال في روايته " مسح وجهه ويديه " ، قاله ابن حجر ، والبيهقي ، وروى الدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

قال الدارقطني : وقفه يحيى القطان ، وهشيم وغيرهما ، وهو الصواب ، ثم رواه من طريق مالك عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا ، قاله ابن حجر ، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان ، وابن معين ، وغير واحد .

وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي ، قاضي بغداد ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف .

ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : " تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب ، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف " الحديث ، لكن في إسناده سليمان بن أرقم ، وهو متروك .

قال البيهقي : رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفا ، وهو الصحيح ، ورواه الدراقطني أيضا من طريق سليمان بن أبي داود الحراني ، وهو متروك أيضا عن سالم ، ونافع جميعا عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : " وفي التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

قال أبو زرعة : حديث باطل ، ورواه الدارقطني ، والحاكم من طريق عثمان بن [ ص: 362 ] محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التيمم ضربة للوجه ، وضربة للذراعين إلى المرفقين " ، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور ، قال : " جاء رجل ، فقال : أصابتني جنابة ، وإني تمعكت في التراب ، فقال : اضرب ، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه ، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين " .

ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد ، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد ، كما قاله ابن دقيق العيد ، لكن روايته المذكورة شاذة ; لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفا ، أخرجه الدارقطني ، والحاكم أيضا .

وقال الدارقطني في " حاشية السنن " ، عقب حديث عثمان بن محمد : كلهم ثقات ، والصواب موقوف ، قال ذلك كله ابن حجر في " التلخيص " ، وقال في " التقريب " في عثمان بن محمد المذكور مقبول ، وقال في " التلخيص " أيضا ، وفي الباب عن الأسلع ، قال : " كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتاه جبريل بآية الصعيد ، فأراني التيمم ، فضربت بيدي الأرض واحدة ، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين " ، رواه الدارقطني ، والطبراني ، وفيه الربيع بن بدر ، وهو ضعيف ، وعن أبي أمامة ، رواه الطبراني ، وإسناده ضعيف أيضا .

ورواه البزار ، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعا : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " ، تفرد به الحريش بن الخريت ، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم : حديث منكر ، والحريش شيخ لا يحتج به .

وحديث : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر : تكفيك ضربة للوجه ، وضربة للكفين " ، رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وهو ضعيف ، ولكنه حجة عند الشافعي .

وحديث عمار : " كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين " .

رواه البزار ، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه .

وقال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، اهـ ، منه ; فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث [ ص: 363 ] عمار ، وأبي جهيم المتقدمين ، كما ذكرنا .

فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط ، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين ، وسنية الذراعين إلى المرفقين ، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين .

وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية ، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال ، فإن بعضها يشد بعضا ، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج : لا تخاصم بواحد أهل بيت ، فضعيفان يغلبان قويا ، وتعتضد أيضا بالموقوفات المذكورة .

والأصل إعمال الدليلين ، كما تقرر في الأصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية