صفحة جزء


[ ص: 554 ] بسم الله الرحمن الرحيم .

سورة الضحى .

قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى

تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة .

وقيل : المراد به هنا النهار كله ، كما في قوله : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 - 98 ] ، وقوله : والليل إذا سجى قيل : أقبل ، وقيل : شدة ظلامه ، وقيل : غطى ، وقيل : سكن .

واختار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه معنى : سكن .

واختار ابن جرير أنه سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، قال : كما يقال : بحر ساج ، إذا كان ساكنا ، ومنه قول الأعشى :


فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا



وقول الراجز :


يا حبذا القمراء والليل الساج     وطرق مثل ملاء النساج



وأنشدهما القرطبي ، وذكر قول جرير :


ولقد رميتك يوم رحن بأعين     ينظرن من خلل الستور سواج



أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط ; لمناسبتها للمقسم عليه ; لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون ، فإنه يقول له مؤانسا : " ما ودعك ربك وما قلى " ، لا في ليل ولا في نهار ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله .

وقوله : ما ودعك ربك ، قرئ بالتشديد من توديع المفارق . وقرئ : " ما [ ص: 555 ] ودعك " ، بالتخفيف من الودع ، أي : من الترك ، كما قال أبو الأسود :


ليت شعري عن خليل ما الذي     نما له في الحب حتى ودعه



أي تركه ، وقول الآخر :


وثم ودعنا آل عمرو وعامر     فرائس أطراف المثقفة السمر



أي تركوهم فرائس السيوف .

قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع ; لأن من ودعك مفارقا ، فقد بالغ في تركك . اهـ .

والقراءة الأولى أشهر وأولى ; لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل .

قال القرطبي ، وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر ; لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك ، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع ، فتقول في مضارع ودع يدع كيزن ويهب ويرث ، من وزن ووهب وورث ، وتقول في الأمر : دع وزن ، وهب ، أما ذر بمعنى اترك ، فلم يأت منه الماضي ، وجاء المضارع : يذرهم ، والأمر : ذرهم . فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من : " ودعك " من التوديع .

وقد ذكرنا هذا الترجيح ; لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة ، وهذا لا يليق بمقام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . أما الموادعة والوداع ، فقد يكون مع المودة والصلة ، كما يكون بين المحبين عند الافتراق ، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه ، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى : وما قلى .

تنبيه .

هنا : " ما ودعك " بصيغة الماضي ، وهو كذلك للمستقبل ، بدليل الواقع وبدليل : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ; لأنها تدل على مواصلة عناية الله به ، حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيرا له من الأولى ، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه .

وقد جاء في صلح الحديبية ، قال لعمر : " أنا عبد الله ورسوله " ، أي : تحت رحمته وفي رعايته .

[ ص: 556 ] وقوله : " وما قلى " ، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها ، فدلت عليها ، هكذا قال المفسرون .

وقال بعضهم : تركت لرأس الآية ، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف ، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود ، فأبرزت فيها كاف الخطاب ، أي : لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب ، والمصطفى المقرب .

أما : " قلى " : ففيها معنى البغض ، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده - صلى الله عليه وسلم - بشيء من هذا المعنى ، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك ، وما أهنت ، لقد قربتك ، وما أبعدت ، كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته ، أو تصرح بها في حقه ، والقلى : يمد ويقصر هو البغض ، يمد إذا فتحت القاف ، ويقصر إذا كسرتها ، وهو واوي ويائي ، وذكر القرطبي ، قال : أنشد ثعلب :


أيام أم الغمر لا نقلاها     ولو تشاء قبلت عيناها



وقال كثير عزة :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة     لدينا ولا مقلية إن تقلت



فالأول قال : فقلاها من الواوي ، والثاني قال : مقلية من الياء ، وهما في اللسان شواهد .

وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ، ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه ، وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه ، وقد قال عمه في ذلك :


والله لن يصلوا إليك بجمعهم     حتى أوسد في التراب دفينا



وذكر ابن هشام في رعاية عمه له ، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا ، تركه مع أولاده ينامون ، حتى إذا أخذ كل مضجعه ، عمد عمه إلى واحد من أبنائه ، فأقامه وأتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ينام موضعه ، وذهب بولده ينام مكان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل ، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه ، وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار ، فكان - رضي الله عنه - تارة يمشي أمامه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يمشي وراءه ، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 557 ] ذلك ، فقال : " أذكر الرصيد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، فقال : " أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر ؟ " قال : بلى ، فداك أبي وأمي يا رسول الله ، ثم قال : إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك معك الدعوة " ، فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - .

التالي السابق


الخدمات العلمية