صفحة جزء
تنبيه

في قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، مبحث التعليم ومورد سؤال ، وهو إذا كان تعالى تمدح بأنه علم بالقلم وأنه علم الإنسان ما لم يعلم ، فكان فيه الإشادة بشأن القلم ، حيث إن الله تعالى قد علم به ، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنه سبحانه قادر على التعليم بدون القلم ، ثم أورده في معرض التكريم في قوله : ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 1 - 2 ] ، وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي ، يدل على عظم المقسم به ، وهو القلم وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره .

وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة ، وكلها بالغة الأهمية .

منها : أولها وأعلاها :

القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة ، والوارد في الحديث : " أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب " الحديث .

فعلى رواية الرفع ، يكون هو أول المخلوقات ثم جرى بالقدر كله ، وبما قدر وجوده كله .

ثانيها : القلم الذي يكتب مقادير العام في ليلة القدر من كل سنة ، المشار إليه بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم [ 44 \ 4 ] .

ثالثها : القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل .

رابعها : القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين المنوه عنه بقوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ، أي بالكتابة كما في قوله : كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 11 - 12 ] ، إذا قلنا إن الكتابة في ذلك تستلزم قلما ، كما هو الظاهر .

خامسها : القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله ، ومن أهمها أقلام كتاب الوحي ، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابة سليمان لبلقيس .

[ ص: 19 ] وقوله تعالى : الذي علم بالقلم ، شامل لهذا كله ، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره ، وعظيم المنة به على الأمة ، بلى وعلى الخليقة كلها .

وقد افتتحت الرسالة بالقراءة والكتابة ، فلماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن عن هذا الفضل كله للقلم ! لم يكن هو كاتبا به ، ولا من أهله بل هو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، كما في قوله : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ 62 \ 2 ] .

والجواب : أنا أشرنا أولا إلى ناحية منه ، وهي أنه أكمل للمعجزة ، حيث أصبح النبي الأمي معلما كما قال تعالى : يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة [ 3 \ 164 ] .

وثانيا : لم يكن هذا النبي الأمي مغفلا شأن القلم ، بل عنى به كل العناية ، وأولها وأعظهما أنه اتخذ كتابا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه ، مع أنه يحفظه ويضبطه ، وتعهد الله له بحفظه وبضبطه في قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ 87 \ 6 - 7 ] ، حتى الذي ينساه يعوضه الله بخير منه أو مثله ، كما في قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، ووعد الله تعالى بحفظه في قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .

ومع ذلك ، فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ وكان له عدة كتاب ، وهذا غاية في العناية بالقلم .

وذكر ابن القيم من الكتاب الخلفاء الأربعة ، ومعهم تتمة سبعة عشر شخصا ، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي ، بل جعل التعليم به أعم ، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة ، وكان كاتبا محسنا " ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب .

وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال : " علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن " .

وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم .

وأبعد من ذلك ، ما جاء في قصة أسارى بدر ، حيث كان يفادي بالمال من يقدر [ ص: 20 ] على الفداء ، ومن لم يقدر ، وكان يعرف الكتابة كانت مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة ، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك .

وكان ممن تعلم : زيد بن ثابت وغيره .

فإذا كان المسلمون وهم في بادئ أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح ، بل واسترقاق الأسارى ، فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله ، ليدل على أمرين :

أولهما : شدة وزيادة العناية بالتعليم .

وثانيهما : جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلق له بالدين ، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية ، في الهندسة ، والطب ، والزراعة ، والقتال ، ونحو ذلك .

وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك ، حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلا ، ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام ، وجاء النص على الكتابة في توثيق الدين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه الآية [ 2 \ 282 ] ، وهي أطول آية في كتاب الله تعالى رسمت فيها كتابة العدل الحديثة كلها .

وإذا كان هذا شأن القلم وتعلمه ، فقد وقع الكلام في تعليمه للنساء على أنهن شقائق الرجال في التكليف والعلم ، فهل كن كذلك في تعلم الكتابة أم لا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية