صفحة جزء
تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان

اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ; كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر .

[ ص: 91 ] ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية [ 9 \ 111 ] .

وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] .

وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " .

وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره .

ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] .

وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى .

وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار .

فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة .

كما جاء في حديث القبر : " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " .

وإن كان كافرا كان على العكس تماما ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ; لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذا بالله .

أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل [ ص: 92 ] الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ، ولم ينافس فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات .

فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح .

وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا ، فإن كان مسيئا فعلى إساءته ، وإن كان محسنا فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 ] .

فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم .

ويبين خطر هذه المسألة : أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ، وأراد زيادة يوم فيها ، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته ، لم يستطع لذلك سبيلا ، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ، كان من الممكن أن تكون مربحة له ، وفي الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما الإنسان : الصحة والفراغ " .

أي : أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ، ثم يندم ولات حين مندم .

كما قيل في ذلك :


بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدر دررا     كما اشترى المسلم إذ تنصرا



التالي السابق


الخدمات العلمية